تحدثتُ مع والدتي في استعراضٍ معها لشريط الذكريات حول جيران الحارة والتقارب الاجتماعي السائد في تلكم الحقبة الزمنية.. فقالت لي: يا بُني كانوا الجيران مثل الأسرة الواحدة، وعلاقتهم القوية والمتينة جعلتهم كالأهل وليس جيرانًا فقط.. يسود علاقتهم الوئام والانسجام، والتعاون والتلاحم، والتكافل والتكاتف، والتواد والتراحم.. عاشوا على الحلوة والمرة؛ في السرّاء والضرّاء، وفي الشدّة والرخاء، وارتبطوا فيما بينهم بأواصر الألفة والمحبة، والوفاء والإخلاص، وحب الخير والعمل به، والإيمان بأهمية الجار، والإحسان إليه، والذود عنه.
ولكن هذه العلاقة اختلفت في زماننا الحاضر؛ فضعفت حتى إنها أصبحت شبه معدومة؛ فأصبحنا نرى الجيران لا يعرفون بعضهم إلا بالسلام عند أبواب المنازل، والبعض الآخر لا يعرف جيرانه إطلاقًا.. ربما لازالت تلك العلاقة الجميلة بين الجيران موجودة في زماننا الحاضر؛ ولكنها على نطاق ضيق في القرى والهجر والأحياء القديمة في المدن والتي تُسمى بـ “الأحياء الشعبية”؛ فاختلاف الثـقافات بين الجيران “العادات والتقاليد” أجدها سببًا رئيسيًّا في إضعاف علاقة الجيران مع بعضهم البعض.. فإن أغلب سكان المدن من ثـقافات مختلفة، وقد قدموا إلى تلك المدن من أجل العمل سواء كانوا موظفين أو ذوي أعمال تجارية خاصة؛ فأصبح معظم الناس يفضلون عدم الاختلاط بجيرانهم؛ لأنهم يعتقدون بأنه لن يكون بينهم توافق نظرًا لاختلاف الثقافات.
ومع إطلالة الحياة العصرية انهارت تلك العلاقة المميزة التي كانت تربط بين الجيران في الماضي، مثلما انهار واختفى كل شيء أصيل وجميل في حياتنا؛ ولصعوبة الحياة وهمومها ومشاغلها، التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، جعلت بعض الناس لا يجدون فرصة للتواصل وتعزيز العلاقات فيما بينهم، وإحياء العادات والتقاليد الأصيلة، التي نشأوا وتربوا عليها، والتي تحث على حسن معاملة الجار، وإسداء العون له، وتبادل الزيارة معه، والوقوف إلى جانبه، في السراء والضراء، وفي أوقات الأفراح والأتراح.
فقد كانت حياة الجيران قديمًا خالية من المشاكل والتعقيدات، التي فرضتها الحياة العصرية، وسادت بينهم العلاقات الأخوية.. القائمة على حب المساعدة والإيثار؛ فكان الجار حتى وقت قريب حاضرًا في كل المناسبات والأحداث اليومية التي يمر بها جيرانه، وأهمها الأفراح والأتراح، يتزاورون فيما بينهم، ويعاون بعضهم بعضًا، ويشكلون ما يشبه العائلة الواحدة، نتج عنها علاقات مصاهرة، وصداقات حميمة ومديدة.
لقد فقدنا تلكم الصور الإنسانية في مفهوم الجيرة عندما كُنا أطفالًا.. كيف كان الجيران يتبادلون فيما بينهم شتى ألوان الطعام؛ فالأم التي تطبخ نوعًا معينًا من الطعام لا يطهى كثيرًا في خلال العام ترسل مع ابنها طبقًا من ذلك الطعام إلى جاراتها، وهم يبادلونها بطعام مماثل، وهذا أيضًا ينطبق على مختلف أصناف المعجنات والحلويات، ولم يكن ذلك مُجرد عادة لتبادل الطعام بين الجيران؛ وإنما كان أيضًا تبادلًا للألفة والمحبة والمودة فيما بينهم، هذه الصورة الجميلة لا زالت محفورةً في ذاكرة الكبار، ولا تكاد تفارقها، رغم مرور السنين الطويلة.
كانت استعارة بعض لوازم المطبخ منتشرة بشكل كبير بين الجيران؛ فلم يكن بمقدور أهل البيت شراء كل اللوازم والأواني المنزلية التي يحتاجونها في المطبخ؛ فكان الناس يستعيرونها من بعضهم البعض، هذا يطلب “حلة للطبخ”، وآخر يطلب ملاعق وصحون لأن ثمة ضيوفًا سيأتون، وخامس يطلب صينية كبيرة لتقديم الطعام عليها..إلخ، كما كانوا يستعيرون من بعضهم بعض القهوة المطحونة أو “تلقيمة شاي أو سكر”؛ حيث لم تكن القهوة أو الشاي أو السكر تتواجد باستمرار في البيوت؛ لأن الشاي كان هو المشروب الشعبي السائد، وكانت القهوة تُقدم فقط للضيوف الغرباء، ونادرًا ما كان يشربها الأهل والأقارب أو الجيران.
ومما هو كان سائدًا في ذلك الزمن الجميل من معانٍ راقية وجميلة.. خاصة إذا احتاج الجار إلى بعض المال قصد جاره أولًا.. قبل أن يقصد أقاربه وأصدقائه، وإذا اشترى أحد الجيران شيئًا لأولاده من الباعة المتجولين، اشترى أيضًا لأولاد الجيران الحاضرين، لأنهم مثل أولاده.. فأين ذهبت علاقة الجوار في هذا المجتمع؟! عندما كان الجار يبقى هو الأقرب.. في ساعات الفرح والحزن.. بمواقفه الإنسانية الخالدة.
ولا أجد وصفًا أدق من هذه الأبيات الشعرية.. التي تصف ما وصل إليه حال الناس هذه الأيام:
والناس ضاقت بالهموم ولم تعد … فيهم صفات الحب والأحباب
نسي الشقيق شقيقه … وتنافروا لتوافه الأسباب
فالمال مزقهم وفرق شملهم … وقضى على الأرحام والأنساب
وعلاقة الأفراد فيما بينهم … كعلاقة المتخوف المرتاب
أسفي على أهل الزمان … لأنه أضحى لكل منافق كذاب
0