من القضايا الفكرية التي أشغلت الفلاسفة قديمًا والمفكرين والعلماء حديثًا، منازع العقل البشري وتقريراته الصادمة والغريبة، التي تتجاوز المعقول إلى غير المعقول، جنوحًا إما لتصفية الحسابات البينية أو افتقاد الرؤية الصائبة أو التَيَهان في بيداء فكر الفرد، وتميز عصرنا بتسيّس كل شيء وليس بفلسفته، وأصبح السواد الأعظم يتلقى السياسة كما يتلقى طعامه وشرابه، معتمدًا على التحليل الشخصي والثقافة الضحلة، والتأثر بكل ناعق، بعيدًا عن الدراسة العلمية الفلسفية والفكرية المتخصصة، وقد ابتلي المسلمون بهوس الخلاف المتكلف، وإقامة معارك بلا غبار ولا سيف ولا رماح، رغم أن قواعد الشريعة الإسلامية وفقهها وآدابها، تؤكد على الوحدة ونبذ الخلاف ويدور فلكها على إصلاح ذات البين بين المسلمين، ولا سيما في المسائل الخلافية التي ينداح فيها النظر، ولا يجوز الإنكار في مسائل الخلاف عند فقدان النص أو مع وجود النصوص الظاهرة غير القطعية الدلالة والثبوت، أو ما يطلق عليه الأصوليون (الظاهر والمؤول ضمن المسائل الاجتهادية)، ومن هذا القبيل والمتكرر كل عام، اللغط الدائر من قبل محدودي الثقافة والوعي حول تحديد حصص نسب الحجاج لكل دولة، والذي صدر فيه إجماع إسلامي على مستوى العالم الإسلامي بتحديد نسبة الحصص لكل دولة بتقدير (١٠٠٠) حاج عن كل مليون، وكان الاستثناء الوحيد إبان أزمة كورونا ثم عادت نسبة الحصص إلى سابق عهدها، وفي الداخل السعودي ارتأت الدولة السعودية (صانها الله) تحديد الحج لمواطنيها والمقيمين على أرضها بتقنين الحج كل ٥ سنوات مرة، مع الأفضلية لأداء حجة الإسلام على غيرها، والعلة ظاهرة؛ حيث إن المساحة الجغرافية للمشاعر المقدسة محدودة ووعرة المسالك، والتي تعجز عن استيعاب ملايين الحجاج الراغبين في الحج مع تيسر المواصلات المعاصرة إلى المشاعر المقدسة ذهابًا وإيابًا، وقد أثبتت التجارب أن أغلب الوفيات بين الحجاج، كانت نتيجة للتزاحم الشديد من الحشود الهائلة المتداعية عند الرمي وعند الطواف والسعي، واتخاذ بعض الحجاج الجبال والطرق العامة مقرًا لهم، وفيهم النساء والشيوخ والأطفال، مما عرّضهم لضربات الشمس والإغماء والحالات المرضية الطارئة، مما كان حصاده الوفيات التي تتجاوز المائتين.
فهل أدرك المشاغبون والمسيسون للفتاوى فداحة جرأتهم وتقحمهم للفتوى الجموح؟! بغية النيل من الدولة السعودية، وتسجيل مواقف عدائية ضدها والتشنيع عليها، وانعكست فتاواهم الحاقدة والمسيسة بشرِّ أعمالهم، على من أغروهم بالحج بدون تصريح وكما قيل: (جنّت على نفسها براقش) وافتضحوا أمام العالم كله .
إن القارئ للتاريخ المحايد لمشاعر الحج خصوصًا وتاريخ الجزيرة العربية عمومًا، يدرك بما لا يدع مجالًا للشك، مدى الخدمات التي قدمتها الدولة السعودية أمنيًّا واقتصاديًّا وعمرانيًّا ودعويًّا وحضاريًّا لجميع المشاعر ابتداءً بالمواقيت وطرقها، والمدينتين المقدستين (مكة والمدينة)؛ حيث تمثلت في القفزات الحضارية الهائلة التي لا يُعرف لها في التاريخ مثيلًا، وأضحت واقعًا ملموسًا لا يمكن إنكاره، مما يحاول تجاهله المؤدلجون والعملاء والنوائح المستأجرة، ولو رجعنا لمصادر تاريخ الحج المحايدة قبل ظهور الدولة السعودية ولا سيما منذ منذ قيام الدولة السعودية الثالثة حتى الآن، فسوف نلحظ التطور المستمر والقفزات الحضارية الهائلة التي لم تتوقف، إذ أنفقت الدولة السعودية آلاف المليارات في عمارة المسجد الحرام والمسجد النبوي والمشاعر المقدسة سنويًّا وعلى سبيل المثال:
فقد تمَّ زراعة عرفة بالكامل، وزوّد مسجدها الكبير بالمكيفات وبدورات المياه الحديثة، وبنقاط المياه الباردة، ومراكز الإسعاف والمستوصفات الطبية الثابتة والمتنقلة في أنحاء عرفة، وأحدثت محطات القطار السريع ذهابًا وإيابًا لتسهيل تنقل الحجاج بسلاسة ويسر بين عرفة والمزدلفة ومنى، كما ضُلل طريق المشاة وزود على حافتيه بدورات المياه النظيفة، ونقاط توزيع المياه الباردة، والمستوصفات الطبية على جانبي الطريق، وفتح المجال للمحسنين بتوزيع المياه والمظلات والوجبات الساخنة والباردة بكميات هائلة في كل مكان من المشاعر المقدسة، ونالت منى ومزدلفة نفس الاهتمام وكثافة الخدمات التي حظيت بها عرفة، وثمة اقتراحات مهمة قد تكون صادمة للبعض ومستغربة، ولكن بعد التأمل قد تكون قابلة للنقاش، وتقلل في ذات الوقت من عدد وفيات الحجاج، ومن ذلك :
١- إزالة الشاخص القائم على جبل عرفة الذي أغرى كثيرًا من الحجاج ظنًا منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عنده، والحق خلاف ذلك إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على الجبل ولا أحد من الخلفاء الراشدين أو أحد من أصحابه -رضي الله عنهم- أجمعين .
٢- إحاطة الجبل بحائط قوي يمنع من الصعود عليه والتعرض لضربات الشمس القاسية على متنه، وقضاء البعض حاجاته بين الصخور، مما يبعث جوًا ملوثًا بالأذى والروائح النتنة؛ إذ إن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات الكبار أسفل الجبل مستقبل القبلة وقال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عُرنة) رواه مسلم وأحمد.
٣- إلزام المطوفين بإرشاد حجاجهم بالبقاء في المخيمات، وعدم الخروج منها للصعود على الجبل إذ ليس ثمة مزية ولا فضيلة في ذلك .
٤- وضع اللوحات الإرشادية بجميع اللغات عن كيفية الوقوف بعرفة تسجيلًا وكتابة.
٥- الإيعاز إلى بعثات الحج بتعليم حجاجهم بمناسك الحج الثابتة والميسرة.
ومن المناسب في هذا المقام اقتراح شروع وزارة الحج والجهات المعنية في بناء المزيد من المجمعات السكنية في المشاعر المقدسة الثلاثة (عرفة ومزدلفة ومنى)؛ لتصبح مدنًا عصرية منظمة مزودة بجميع الخدمات اللوجيستية الضرورية والتي تتجاوز إلى الحاجيات والكماليات على مدى عشرات السنين القادمة؛ إذ بالإمكان أن يصبح المخيم الذي يضم ألفي حاج على مساحة مسطحة من الأرض مع الضيق والعنت والزحام، أن يستوعب بعد البناء آلاف الحجاج في راحة وسهولة ويسر وأمن وآمان. لتؤول هذه المجمعات إلى أوقاف للمشاعر المقدسة، ينفق من ريعها على مزيد من الخدمات الحضارية المتجددة لسائر الحجّاج والعمّار والزوّار …
ويمكن تأجيرها في موسم رمضان في ظل تجاوز عدد المسلمين لملياري مسلم في عالم اليوم، والذين تهفو نفوسهم لزيارة مكة والمدينة والمشاعر المقدسة كل عام ..
إن المعارضين للزومية تصريح الحج، إنما يركبون شططًا، ويشذون رأيًّا، وينحرفون فكرًا ونهجًا ، ويقلبون ظهر المجن لإجماع المسلمين على ضرورة تُحدد حصص الحجاج لكل دولة، حفاظًا على مقاصد الشريعة السمحة، وتحقيق مصالح الحج والحجاج، واحترازًا من كل أذى أو تقصير، ولكن المشاغبين والمسيسين لا يفقهون !!!!!
0