حضرت قبل يومين جنازةَ أحد الأفاضل؛ حيث كانت الجنازة مهيبةً مشهودةً من جمع غفير قَلَّ أن تشاهد مثله، صغارًا وكبارًا وشيوخًا من محبي الفقيد – رحمه الله -ومِمّن سمع بوفاته فحضر وهو لا يعرفه حق المعرفة، فقد كان الفقيد من الشباب القدامى في أحياء جدة القديمة، كما كانت له أيادٍ بيضاء على كثير من المرضى الذين يراجعون المستشفى التي كان يعمل فيها.
في المقبرة المكتظة بالمشيعين، كان الجميع منشغلًا بالسلام على بعضهم، فقد جمعت الجنازةُ الكثيرَ من الأصدقاء الذين فرقتهم الدنيا، والتقى المحبون والأصدقاء بعد سنين.. ربما في المقبرة.
وأنا شخصيًا رأيت الكثير والكثير من معارفي وزملائي وأصدقائي، ولولا أني خرجتُ سريعًا لبقيتُ لأكثر من ساعة أسلّم وأحيي من أقابل؛ هذا فضلًا عن انتظار دوري الذي سيتأخر للسلام وتعزية أهل الميت؛ حتى إنني قلتُ لأحدهم ممازحًا: يبدو أن الناس حضروا إلى المقبرة ليتقابلوا ويسلموا على بعضهم!
والحقيقة أن هذا الأمر أشغلني كثيرًا وجلست يومين وأنا أفكر فيه، وأتساءل بيني وبين نفسي: صحيح أنني أتمنى أن تكون جنازتي مشهودة يحضرها أهل الخير والصلاح ومن يسمع بها؛ ولكن من الذي سيتذكرني بعد دقائق من دفني ليقف ويطيل الدعاء لي؟ ومن ذا الذي سيتذكرني بعد أيام من دفني فيرفع يديه داعيًا لي؟ ومن الذي سيتذكرني بعملٍ صالح يهديني ثوابه؟ أو وقفٍ ولو بسيط يكون ثوابه لي؟
بل حتى أبنائي وزوجتي كم سيظلون بعد موتي يتذكرونني فيدعون لي؟ وماذا سيقدمون لي بعد موتي مقابل ما قدمته لهم في حياتي؟!
وقبل ذلك مَن الذي سيسمع بخبر وفاتي؛ فيسارع لحضور الصلاة ومراسم الدفن اعترافًا لما كان بيننا من مودة وعِشرة.
الحقيقة التي لا بدّ أن ندركها كلنا أنّه لن ينفعك بعد موتك مثل نفسك، قد يقدم لك بعضُ محبيك أعمالًا أو وقفًا أو ما شابه، لكنْ كل هذه احتمالات قد لا تقع!
ويبقى الأفضل لي ولك ألا ننسى موعد فراق هذه الحياة حين نتجرد من كل شيء كما نتجرد من ملابسنا، حين تنتهي قدراتنا على التحكم في أموالنا وفيمن حولنا، ونبقى مرهونين لأعمالنا وما قدمناه لأنفسنا (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (سورة الفجر الآية 24)، (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) (سورة المنافقون الآية 10).
(يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ) رواه البخاري ومسلم.
لنقدم لحياتنا الحقيقية، ولنتصدق بما نستطيع، ولنفعل من الخير ولو أن نُقدِّم نصفَ تمرة نتقي بها النار، أو ابتسامةً في وجه مكروب تكون لنا ذخرًا عند الله تعالى، فإن لم نستطع فلنتقِ محارمَ الله فمن فعل فهو أعبد الناس كما ورد عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
2
سلمت أناملك دكتور ونفعنا بعلمك وأبقى بالخير أثرك
وللآخرة خير لك من الأولى..
والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
شكراً دكتور على المقال الذي هو عبارة عن ناقوس يدق في عالم النسيان.