يؤكد المربون والمهتمون بالاجتماع التربوي أنه إذا كانت الأسرة تُعَدُّ الوسط الاجتماعي الأوَّل الذي يُؤمِّن وسائل المعيشة لأفراده، ويدربهم على التكيُّف مع الحياة، ويُشكّلهم ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع، وأصبح من الثابت أن المجتمع الذي من أشكاله الأسرة – لا يضمّ أفرادًا فحسب-، ولكنه يضم أفرادًا وما يتولَّد عن وجودهم الاجتماعي من صِلات وعلاقات تشكل جوهر العلاقات الإنسانية. وتُطلق هذه العلاقات عادةً على الروابط الجميلة بين الناس أفرادًا وجماعات، سواء كان ذلك على مستوى الأسرة، كالعلاقة بين الزوجين، والعلاقة بين الآباء والأبناء، أو على مستوى المجتمع بكافة أطيافه، أو على مستوى الاتصال الإنساني والتفاهم البشري بشكل عام، في كافة جوانب الحياة ومجالاتها المختلفة. ومن أعظم مظاهر التغيُّر في طبيعة العلاقات الإنسانية في وقتنا الحاضر أن التواصل أصبح معظمه عن بُعد وعبر وسائط كتابية تحمل المعاني والمشاعر والأفكار ولا تفسرها كالواتس اب والسناب شات والتلقرام والماسنجر وغيرها من البرامج؛ فتشكلت بذلك أنماطًا غير مألوفة للعلاقات بين الناس؛ فأصبحت هذه العلاقات جافة وهشة قد تحكمها كلمة أو أيقونة فتبقيها أو تقضي عليها، وهنا تكمن خطورة الأمر؛ فكم من أرحام قطعت وأواصر تهتكت وأسر تناثرت، وصداقات تلاشت وانقلبت عداوات بسبب فهم خاطئ وتفسير سلبي لرسالة أو تعبير عبر تلك الوسائط؛ فهاهي صورة المجتمع قد تغيَّرت كليًّا عن صورته في الماضي؛ حيث ظهرت بوادر التوحد الفردي والجماعي، واقتصرت العلاقات على أدنى صورها. وليس ذلك فحسب بل قد تعاظم أثر تلك الوسائط؛ فلم يعد للاجتماعات المباشرة بين أفراد الأسرة الواحدة تلك الأهمية بسبب انشغال كل منهم بعالمه الفرضي الخاص، ويمكن ملاحظة ذلك حتى في المناسبات الاجتماعية والأعياد والحفلات؛ حيث قل تبادل الأحاديث وتلاشت بشاشة الوجه، وانشغل كل فيما يشغله عبر الجوال، وامتد ذلك الأثر ليكتفي كل شخص برسالة أو صورة تحمل التهاني أو التعازي وخلافه من الفعاليات الاجتماعية، وتبدلت أحوال الناس بسبب هذه الوسائط التي أصبحت الحاضن الأول للسلوك بل وأصبحت جزءًا كبيرًا في حياة الناس بل لا أبالغ -إن قلت- إنها أصبحت عند بعض الناس كل الحياة، وللأسف الشديد فلقد أجهضت هذه الوسائط جمال العلاقات الإنسانية وتلاقي الأرواح وتعانق الأجساد ومصافحة الأيدي، وتبادل الابتسامات وتعابير السرور التي كانت تلعب دورًا هامًا في الجاذبية. وتبعًا لذلك تبددت المشاعر الخلّاقة والأحاسيس المرهفة الصادقة التي تحرك عُمق العلاقات الإنسانية؛ مما يستدعي وقفة جادة من المربين والمتخصصين في فن العلاقات الإنسانية لوضع حد لتعاظم دور هذه الوسائط وزيادة نفوذها، وسيطرتها على حياة الناس وتصرفاتهم؛ وذلك لكي لا تتلاشى مظاهر العلاقات الإنسانية التي شكّلت جزءًا كبيرًا من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. التي استهدفت تماسك المجتمع ونشر المحبة والمودة بين أفراده.
0