إن انشغال الناس المبصرين بما يجري حولهم يجعلهم مشتتي الانتباه، وفي الغالب لا يركزون تفكيرهم إلا إذا اضطروا إلى ذلك أما في معظم الوقت؛ فإن أذهانهم تبقى تمر على الأشياء دون انتباه.
أما الأعمى فلا شيء يشتت انتباهه؛ فهو يركز داخل ذاته تركيزًا شديدًا فما يصل إلى ذهنه يبقى يركز عليه ويحاوره ويستقصي ذهنيًّا حول كل ما يخطر على باله؛ لذلك ينجلي تاريخ الفكر وتاريخ الإبداع عن أشخاص عاشوا عميانًا لكنهم تميزوا بالعبقرية.
وأول ما يتبادر إلى الذهن من العباقرة العميان أبو العلاء المعري الذي لا يزال يغذي عقول الدارسين بأروع الذخائر في الفكر والأدب والحياة …..
كما نذكر طه حسين فقد وثب فكريًّا وثوبًا، جعله أبرز رواد التنوير في العالم العربي لقد تعلم في مصر لكنه لم يقنع حتى حصل على الدكتوراة من السوربون في فرنسا.
طه حسين أعمى وفقير ولا يجيد اللغة الفرنسية، ولكنه في زمن صعب يقذف بنفسه إلى الغربة فيتعلم اللغة الفرنسية ويلتحق بالسوربون، ولا يأتي إلا وقد تشبَّع بأفكار التنوير بالإضافة إلى الدكتوراة، وحين عاد إلى مصر جابه كل الأوضاع المضادة فأعلن أفكاره التنويرية بكل جرأة ففُصِل من وظيفته ولكنه بقي صامدًا.
وفي نفس المستوى يبرز اسم الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس … هذا الرجل لم يجد أنه يحتاج إلى الالتحاق بالجامعة؛ فرغم “فقد بصره” فقد تمكن من أن يكون أديبًا عالميًّا، ورغم أنه لا يحمل حتى شهادة جامعية فقد تم تعيينه أستاذًا للأدب في جامعة بيونس آيرس، وتترجم كتبه إلى مختلف اللغات ويُحتفى به كواحد من أبرز مثقفي العالم.
أما الأعمى الرابع الذي تميز بالعبقرية؛ فهو الشاعر اليمني عبدالله البردوني وبهذه المناسبة أشير إلى صدور مذكراته في مجلد أنيق أعد للمذكرات، وقدَّم لها الدكتور حيدر محمود غيلان.
0