المقالات

فالراحلون هم..

أمام تلك الشجرة العظيمة.. وقفت أتأمل القوة والثبات التي لم تزحزحها السنون.. ظلت شامخةً رغم كل العواصف التي أنهكتها؛ لتحافظ على بقائها وصمودها.. المجد الذي حافظ على مكانته وقيمته متمسكًا بالفروع التي تأصل جذعها بين ذرات التربة حتى تشبّث بها.
امتدّت تلك الأغصان يمنة ويسرة ترتقي إلى السماء؛ وكأنها تتوق لرؤية غدٍ مشرق.. تحمل الحياة في أطرافها بخضرة يانعة باسمة.. لم أرَ غصنًا يهبط إلى الأرض سوى تلك الأغصان التي أرهقـتها السنون حتى جفّت عروقها.. ومع ذلك تنبثق من أحشائها الحياة فتنمو أوراق خضراء تواصل مسيرتها رغم الألم، وإن دعا بها الأمر أيامًا طويلة تتجاوز الانكسار والجرح لتعود إليها قوتها.. فما زالت الشجرة مزهرة خضراء.. تواجه حرارة الشمس القاسية، وتنشر الظل لمن يهرب عن وهجها.. وتقف في وجه العواصف لتخفف من دمارها على الأرض.. تزهر رغم كل الظروف لتقدم جمالًا تبحث عنه العين؛ وكأنها يومًا لم تنكسر..
في فصل الخريف.. تُعيد الشجرة تنظيم حياتها استعدادًا لفصل الشتاء.. ومواصلة مسيرتها.. فترمي بثـقل أوراقٍ باتت عبئًا على أيامها.. كتلك الأوراق الصفراء التي قررت أن ترى الشجرة بعين تسرب منها النقاء غدت معها صفراء باهتة.. فسقطت لتكمل دربها مع من يشبهها بعيدًا عن الشجرة الشامخة التي ما عادت تليق بها.
أرى في تلك الشجرة الصورة المثالية للإنسان في علاقاته الاجتماعية الواسعة.. فالشجرة الخضراء اليانعة المتمسكة بأوراقها الناصعة التي تُشكل معها جمالًا متكاملًا تمثل الشخص النقي المتصالح مع الحياة بعلاقات جيدة ومتينة متى ما كان تواجدهم صادقًا.. لكن متى أرخص أحدهم العلاقة.. وتبدلت نواياه تجاه الشخص وقرر الابتعاد.. فهو كتلك الورقة الصفراء التي لا يجب على الشجرة أن تطيل التمسك بها.. بل الأجدى أن تتركها لترحل في طريقها الذي اختارته بعيدًا عنها.. ولا شك أن الشجرة لن تخسر حياتها بقرار الورقة التي سقطت ومضت في مهب الريح.. بل ستظل صامدةً قويةً وإن أنهكها برد الشتاء فترة لكنه لن يؤثر على قيمة الشجرة ولا مكانتها.. كالشخص الذي قرر الابتعاد والرحيل والسير بدرب جديد في دروب الحياة.. فعلينا أن نسمح له بالرحيل.
إن قرار السماح بالرحيل والابتعاد في العلاقات متفاوت بحسب درجة القُرب والبُعد بين أصحابها.. وقيمة العلاقة التي ربطت بينهم وعُمقها.. فإذا عُدنا إلى الشجرة فإن الورقة الصفراء لا بد في يوم أن تسقط وإن طال تمسك الشجرة بها.. وكذلك الغصن الذي انكسر من الشجرة.. ولعل سقوطها يجعلنا نتأمل مبدأ قبول عودة الأشخاص إلى مكانتهم بعد رحيلهم.. فأظن الأولى رفض عودتهم فبعودتهم ظلم للنفس؛ إذ لا يمكن أن تعود ورقة صفراء إلى مكانها بعدما سقطت من الشجرة..
إن تساقط أوراق الأشجار.. وقرار الرحيل.. وبُعد الأشخاص في العلاقات الاجتماعية، قرار واختيار.. وقد أعادتني تلك الفكرة إلى قصيدة المتنبي الشهيرة (وأحر قلباه ممن قلبه شبهم)، وتحديدًا لقوله:
إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا
أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلـــونَ هُمُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى