غريب ألّا يكون لنا في مخلوقات الله حولنا عظات وعبرًا، وقد ذكر الله من عجائبها حكايات وقصصًا أذهلت العلماء من المسلمين وغيرهم؛ فبعد مقالي السابق “لا تظلموا الغراب” تلقيت تعليقات حول اختياري الغراب للتدليل على استحقاقه نظرة إيجابية مختلفة؛ إذ رأى بعضهم أن تعليم الغراب المذكور في القرآن كان بوحي من الله، وأنّ قتله مسنون، بينما رأى آخرون أنّ صوته مزعج وشكله غير جميل وطباعه سيئة. فكيف أتعاطف معه وأطالب بمزيد من الدراسات الإيجابية حوله؟
لكنّني رغم الانتقادات لا أزال أرى فيه أسرارًا تستحقُّ الوقوف عندها؛ إذ قرأت عنه الكثير، فرأيت من أمره عجبًا، فهو يتصرّف كالبشر؛ فإن اعتدى غراب على آخر ليسرق طعامه، أو اقترب آخرُ من زوجته، يحاكمونه وينفّذون الحكم فيه. وكذا للحشرات أيضا محاكم يحاسب فيها المخطئون.
وتثير المزيد من الحقائق عن الحشرات الدهشة؛ إذ اكتشفت دراسة علميّة حديثة نشرت في دورية “بي إن أيه إس” PNAS حول عالم النحل -الذي يغلب عليه عدم المواجهة إلّا في حال الخطر- إحدى الممالك من فصيلة “جاتاي” وأن هناك بعضًا من حشرات النحل تٌولد كجنود. وتعد هذه الدراسة الأولى من نوعها، إذ تقدّم مثالًا معروفًا لجنود النحل. يقول فرانسيس راتنيكس الذي قاد فريق البحث: “تقوم الشغالات من النحل بمهام مختلفة في أعمار مختلفة، فتبدأ بتنظيف الخلية، ثمّ إطعام اليرقات، ثمّ تجمع الطعام، وأخيرًا تقوم بالحراسة.” لكن في الوقت الذي تقوم فيه النحلات بمهام الحراسة مدّة يوم تقريبًا، فإنّ النحل من فصيلة جاتاي يقف كحارس أمام مدخل الخلية المكوّن من الشمع مدّة أسبوع، وهذه في عالم الحشرات وظيفة طويلة نسبيا.” ويذكر أنّ فريق البحث الذي قام بمراقبة خلايا النحل في إحدى مزارع المدن البرازيلية، وجد أنّ هذا النحل يستخدم رسوما منقّطة بشكل معيّن لتعريف الجنود الذين يحومون قرب مدخل الخلية لحراستها، ممّا يشير لقيامهم بهذا الدور لفترات ممتدة من الزمن. ويضيف راتنيكس: ” أخذنا عددًا من الجنود إلى المعمل لفحصهم عن قرب.” ومن هذا الفحص تبيّن أنّ جنود النحل لم يختلفوا عن شغّالات النحل في سلوكهم فحسب، بل في أحجامهم وأشكالهم. ويضيف: “جنود النحل أضخم حجما بنسبة 30% من شغالات النحل، وأرجلهم أضخم ويستخدمونها في الهجوم.”
وكما يحارب الغربان اللصوص منهم، ويقوم جنود النمل بحماية مسكنهم من الدخلاء، يقوم النحل بمحاربة النحل اللصّ؛ حيث يعتقد الفريق الدارس أنّ هذا النوع من جنود النحل قد يكون نتاجا لسباق تسلّح متطوّر ضدّ أسوأ أعدائهم، وهو النحل اللصّ، ويُعرف هذا النوع من النحل بهذا الاسم؛ لأنّه يقوم بمهاجمة خلايا نحل أخرى، ويسرق مخزون الغذاء لديها بدلًا من جمعه. ويصف راتنيكس هذا النوع بقوله: ” هذا النحل أكبر حجما من نوع النحل “جاتاي”، ويمكن لهجوم شامل من النحل اللصّ، أن يدمّر مستعمرة كاملة للنحل من نوع جاتاي. ومن الواضح أن جنود النحل يساعدون في منع الهجوم عن طريق اعتراض “أفراد الكشافة” من اللصوص التي تنطلق لتبحث عن مستعمرة لتكون الضحية المناسبة للغزو. ويقول دكتور ريتشارد غيل، من جامعة رويال هولواي في لندن، والمتخصص في النحل أنّ مجتمعات الحشرات تستطيع أن “تتصرف بفاعلية أكثر” إذا كان الأفراد فيها بالحجم والشكل المناسب للقيام بمهمة معينة.
إن ثقافة البشر الضيّقة التي لا ترى في حقائق عالم الحيوان والحشرات ماذكر منها سواء في تفاسير القرآن الكريم أو الدراسات الحديثة غرابة، تحتاج تغييرًا. يقول تعالى في سورة النحل مبيّنا مساكنها وطعامها وشرابها : }وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{
خلاصة القول إن الإنسانية بحاجة لمزيد من الدراسات حول مخلوقات الله التي تقدّم أسرارا وفقه حياة، وهندسة بيئة، استفدنا من بعضها ومازال بعضها مغلقًا، ولو تدبّرناها وتفكّرنا بها لرأينا من أمرها عجبا.