تمر المنطقة في الوقت الراهن بأسوأ حالاتها سواءً من الناحية الأمنية أو الاقتصادية أو النفسية، وبصورة أكثر تحديدًا بعد تعثر الجهود المؤدية إلى إيقاف الحرب الإسرائيلية في غزة والتصعيد، وحالة التوتر بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان، ووضع الملاحة البحرية السيئ في جنوب البحر الأحمر.
هذا غير الوضع المؤلم والصعب في السودان الشقيق، وما يشهده من (اختراقات) خطيرة تهدد باستمرار الحرب هناك لفترة طويلة ومفتوحة.
وقد بلغ الوضع مداه بعد اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (إسماعيل هنية) في قلب العاصمة الإيرانية طهران في ٣١ يوليو ٢٠٢٤م، وتصفيتها لأكبر قيادة عسكرية لحزب الله (فؤاد شكر) قبل ذلك بيوم واحد بعد سلسلة اغتيالات متواصلة لقيادات عسكرية مؤثرة للحزب، ليس هذا فحسب، بل ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من استنفار واسع لقدراتها العسكرية بإرسال حاملة طائرات ومدمرات إضافية إلى منطقة الشرق الأوسط؛ بهدف الدفاع عن إسرائيل ومواجهة أي هجمات متوقعة عليها من إيران وحزب الله وغيرهما، ردًا على عملية الاغتيال لـ(هنية) وما تسببت فيه من تعدٍّ على السيادة الإيرانية أمام أنظار العالم وتحت سمعه وبصره وفي ظروف الاحتفال بتعيين رئيسًا جديدًا للجمهورية الإيرانية وبحضور كل الأعوان والشركاء.
وبكل ما ألحقت الضربة بإيران من أذى على كافة المستويات الأمنية والسياسية والاعتبارية يصعب احتواؤها دون رد قوي ومزلزل. في ظل هذه الأجواء فإن السؤال هو:
إلى أين تتجه المنطقة بعد الآن؟
لكن وقبل الإجابة على هذا السؤال الكبير أريد أن أقول: إن حجم الرد الإيراني على إسرائيل هو الذي سيحدد إلى أين تتجه الأمور، ومدى الرد الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا.
ولا أظن أن إيران تجهل العواقب الوخيمة لتوسعة الحرب، ليس عليها فحسب وإنما على المنطقة بأسرها من جهة، ولأنها تدرك أن رد الاعتبار الذي تسعى إليه لا يجب أن يجُر عليها أهوالًا لا قبل لها بها، ولا لأعوانها قدرة على تحملها مهما بلغت حماستهم واشتدت رغبتهم في الانتقام من إسرائيل.
وبحسابات المكسب والخسارة من قبل جميع الأطراف بما في ذلك الطرف الروسي الذي أعلن عن دعمه لإيران في حالة تعرضها لمكروه رغم حربه القائمة في أوكرانيا، فإن الجميع لا يبدو مستعدًا لدفع تكاليف الحروب وتوسعة المواجهة، والاكتفاء بضربة هنا، وضربة هناك، ردًا للاعتبار وتجنبًا للمزيد من الضربات الأعنف وتكاليف الحروب المدمرة وطويلة الأجل وغالية التكاليف.
خيارات المستقبل
ولذلك فإنني أستطيع أن أحصر الخيارات المستقبلية المطروحة بقوة الآن في الآتي:
أولًا: رد الفعل الخجول من إيران وشركائها في المنطقة في كل من لبنان وسورية والعراق واليمن وهو الأغلب بالذات في ظل نجاح التحركات السياسية الجارية الآن بين أطراف النزاع سواء في الجانب الفلسطيني والإيراني وأعوانهما، أوالجانب الإسرائيلي، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية (المستنفرة) الآن عسكريًا وسياسيًا وأمنيًا.. وبدرجة أو بأخرى بين العواصم العربية المعنية بالوضع السائد الآن في المنطقة.
وسوف لن أتفاجأ بنجاح العمل السياسي القوي الذي يتم الآن بين عدد من العواصم والأطراف المشار إليها بتفادي الحرب الواسعة وجر المنطقة ومن ورائها العالم إلى حرب واسعة، وبالذات في ظل وضع الانتخابات الأمريكية المحتدمة الآن بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وكذلك في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية ومشاركة الدول الأوروبية فيها بصورة أو بأخرى.
لكن نجاح هذا التحرك السياسي الصامت بمشاركة أطراف عربية وازنة كالمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية ودولة قطر أيضًا والأردن، سوف يكون بمقابل ملموس تقبل به إسرائيل وتلتزم بتنفيذه الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا المقابل قد يتمثل في مسارين:
– المسار الأول: المضي في تنفيذ الاتفاق المطروح بقوة لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة والبدء في إجراءات إطلاق سراح الرهائن، وشيء من التهدئة على الجبهة اللبنانية.
– المسار الثاني: التعهد الإسرائيلي بعدم الانتهاك للسيادة الإيرانية بعد اليوم من قبلها، وضمان إيران عدم التهديد لأمن وسلامة إسرائيل انطلاقًا من الأراضي الإيرانية أو من قبل شركائها.
وبقدر ما ينطوي هذا الخيار على ما قد يدفعه الطرفان الإيراني والإسرائيلي من أثمان بالقدر الذي يوفر أرضية مشتركة للعمل بمنأى عن التهديدات المتبادلة في المرحلة القادمة لا سيما وأن إيران مقبلة الآن على مرحلة جديدة بعد أن أعلن رئيس الجمهورية الجديد (مسعود بزشكيان) عن نواياه للانفتاح على الدول الغربية؛ بهدف التوصل إلى تهدئة شاملة بين الطرفين وإن كانت الأطراف الغربية لا تبدو أنها تتوقع تغييرًا جوهريًا في السياسات القائمة حتى الآن.
ورغم كل هذا، فإن الخيار يظل مطروحًا وبقوة – من وجهة نظري- لأنه لا مصلحة لأي طرف من الأطراف للذهاب إلى الحرب الواسعة والشاملة والمفتوحة.
ثانيًا: الحرب الشاملة:
وهو خيار لا مصلحة لأي طرف فيه، والذهاب إليه يُشكل عملية انتحارية (مجنونة) ولا يُحقق أي هدف لأي طرف من الأطراف سواء على المستوى القريب أو البعيد، ولا يخدم أي حسابات لا على المستوى المعنوي أو المادي أو السياسي والعسكري، وبالتأكيد فإن إيران محتاجة للالتفات إلى الداخل لمعالجة أوضاعها الحيوية وتأمين كيانها بصورة ملحة بعد أن كثرت الاختراقات الإسرائيلية لها، وهزت صورتها في الداخل والخارج، وأظهرت مدى الحاجة إلى ايقاف تفشي (الموساد) الإسرائيلي في أجهزتها الحساسة حتى أصبحت مكشوفة من الداخل للأعداء بصورة مخيفة وتوسيع دوائر الحروب سوف يكلفها كثيرًا ويضاعف عُزلتها الدولية في صورة غير مسبوقة وإسرائيل من الداخل لا تقل سوءًا عن إيران، وبالذات في ظل السياسات الرعناء التي يمارسها الجناح اليميني المتطرف بزعامة (نتنياهو) وصراعه مع المعارضة الرافضة لاستمراره في السلطة والمهددة بمحاكمته وطرده -بصورة نهائية- منها.
كما أن الإقليم بكامله مشغول بحالة التفكك والتشرذم وتضارب المصالح وتعارض التوجهات والسياسات، وبالأوضاع الاقتصادية التي تقترب من حالة الانهيار ببعض الدول؛ فضلًا عن الحالة الأمنية غير المستقرة التي يشهدها الإقليم برمته.
لكل ذلك فإن جميع الأطراف لا تبدو مستعدة لتحمل تبعات المغامرة للدخول في حرب شاملة وطويلة المدى لضخامة خسائرها وصعوبة الحياة بعد توقفها.
ثالثًا: جمود الوضع واستمراره لفترة طويلة؛ وذلك كفيل باستمرار حالة اللا استقرار وانتهاك مقدرات دول وشعوب المنطقة، وتفشي ظواهر الفقر والتخلف والفساد والحروب الخفية وحالة التفسخ الاجتماعي والتحلل الأخلاقي والانصراف عن كل شكل من أشكال الحياة الهانئة وحشد كافة الإمكانيات والقدرات لبناء القوة العسكرية على حساب تنمية وتطوير المجتمعات، وتحقيق الرفاه لشعوبها وبناء الأوطان والخوف الدائم من وقوع المجهول في أية لحظة، وكما نعرف فإن هذه الحالة قد امتدت منذ غزو صدام حسين الكويت في العام (١٩٩٠م)، وساد الانقسام صفوف العرب، وانشغلوا بمحاربة بعضهم البعض وانصرفوا كثيرًا عن التصدي للمغتصب للأراضي الفلسطينية مما مكّن من تعزيز قدراته وتنشيط مؤسساته الأمنية لأوسع عملية اختراق للجسد العربي، وتفكيك روابطنا العربية وبذر بذور الشكوك بين أبناء فلسطين وتحديدًا بين منظمة التحرير الفلسطينية وحماس وتعميق الفجوة بين الطرفين، فيما توسع هو في خططه وبرامجه لإقامة آلاف المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وغزو أراضي شبعا اللبنانية والتوسع على حساب مصر في منطقة سيناء، والسيطرة على الجولان السورية بعد حرب ١٩٦٧م، لتصل الأمور إلى ما وصلت إليه الآن، ولما قد تنتهي إليه الأوضاع بعد الآن، وبالذات إذا استمر الوضع العربي على حاله من الانقسام والتشظي ومضت إيران في سياسة التوسع بتعزيز محور المقاومة وزعزعة الاستقرار في المنطقة بكاملها، ولم تظهر قوة أو مجموعة عربية قوية ومتجانسة بمواجهة هذا التيار بإعادة لملمة بقايا الجسد العربي الممزقة أوصاله.
رابعًا: خيار الفرصة الأخيرة..
وهو خيار (عقلاني) حتمته حالة عدم الاستقرار السائدة في المنطقة وإهدار مقدرات الأمة وسفك الدماء في ظل غياب المحاسبة وضعف قوة الردع وتضارب المصالح وغياب الحكمة، وهي الحالة التي منحت إسرائيل حالة الاستقواء والتنمر والبطش وقتل الأبرياء استثمارًا للأخطاء وللسياسات (الحمقاء) وغير المدروسة بعناية كافية، وبتغليب المصالح العُليا لشعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، وبالتالي تعريضه لدفع أثمان غالية في الأرواح، وفقدان المزيد من الأراضي وتبرير همجية الصهاينة وتمكينهم من تنفيذ مخططهم الرامي إلى تهجير من تبقى من شعب فلسطين الذي يعيش وسط لهيب الحروب وقتل الأبرياء.
هذا الوضع المؤلم والقاسي يُحتم علينا كأمة عربية أن نراجع حساباتنا، ونعيد قراءة التاريخ ونستعرض جميع مراحل الصراع التي شهدتها المنطقة منذ العام ١٩٤٨م، وحتى اليوم، وأن نستعرض حسابات المكسب والخسارة، وأن نتحمل – بعد كل ذلك- مسؤولياتنا تجاه شعوبنا وأوطاننا، وأن نتخذ قرارًا تاريخيًا يُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ولا يتركها نهبًا للأهواء والأطماع والسياسات الضيقة والمحدودة وحساب المكاسب الوهمية والزائفة، وقيادة المنطقة بأسرها إلى مزيد من الدمار والجوع والكفاف وصولًا إلى حالة الانهيار الشامل.
من أجل كل ذلك، وفي ظل رؤية موضوعية تفرضها المصلحة العُليا وتحتمها الأمانة التاريخية، فإن المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان تحاول -الآن- وبكل ما أوتيت من جهد وحكمة إعادة بناء اللحمة العربية وتوحيد المواقف وتغليب خيار الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة، والتوجه نحو بناء الأوطان وتنميتها وإسعاد شعوبها، وتطوير أوجه حياتها وتمكينها من مواكبة العصر بالحفاظ على مقدراتها ومضاعفة مكاسبها والانتفاع من ثرواتها الهائلة وفي مقدمتها الثروة البشرية التي تتوق وتتطلع إلى المستقبل الأفضل، وطي صفحات الماضي الأليمة بفرض إرادة السلام المبني على أسس موضوعية متينة يتفق عليها الجميع في وجه كل عدو متجبر يستغل خلافات الأمة وتعارض مواقفها وسياساتها، ويقف ضد مشاريع الاستقواء على حساب الآخرين، وضد مصالح دول المنطقة وشعوبها.
وبكل تأكيد فإن توحد جهود الأمة في الأخذ بهذا الخيار سوف يجهض كافة مشاريع الأعداء والطامعين في تدمير هذه الأمة والاستيلاء على ثرواتها ومقدراتها، كما أنه سيوفر أرضية مشتركة للالتقاء حول منهجية واحدة في إدارة شؤون المنطقة والقضاء على أي مشاريع توسعية أو محاور من شأنها أن تبقي على حالة عدم الاستقرار وتنازع المصالح والاستمرار في سياسة بناء المزيد من المحاور، والإبقاء على حالة التوتر في أعلى درجاتها.
وفي هذا الاتجاه فقد شهدت المملكة عدة قمم عربية وإسلامية لبلورة موقف عربي وإسلامي موحد كما ترأست اجتماعات وتحركات واسعة النقاط على مستوى العالم للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، وزيادة عدد الدول الأعضاء المؤيدين لها بالأمم المتحدة، وماتزال الجهود متواصلة في هذا الاتجاه كخيار ضروري ومهم يتم فرضه بإرادة عربية وإسلامية ودولية على إسرائيل التي ترفض قبوله؛ ولتستفيد من حالة الاضطراب والتمزق والتنافر بين دول المنطقة للمضي في تحقيق مخططاتها الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية مستفيدة من الوضع العربي الممزق من حالة الانقسام التي تشهدها المنطقة.
مقال واقعي ومنطقي وتحليل سياسي ينم عن خبرة وعلم ودراية وسبر أغوار الاحداث ومجرياتها .. تابعت المقال من بداية السطر؛ حتى النقطة الأخيرة وكأنني أمام فيلم يصور لك الاحداث والحقائق حتى اضحت واضحة للمتلقي وفق فكره وخلفيته السياسبة وما نعيشه الأن .. وهذا ما عودنا عليه رجل الصحافة والإعلام وفارس المنابر وسيد القلم الجريء.