المقالات

«تعبئة ضد ما كان»

“بشر معبأون بالأحقاد والمشاعر السلبية، لا يعرفون كيف يفرغون كل تلك الكميات الهائلة من الضغينة؛ فذهبوا يسكون عادات وتقاليد وأعراف ترضي ذلك الميل القبيح نحو استلاب فرح الآخرين”.
هكذا تعبر أمي عن غضبها من بني قوم أبي.
هي من سكان بطن الوادي الذين لا يقتربون من بيت المتزوجين مطلقًا إلا لتقريب وجبة طعام أو حين تأتي الفتيات من أقارب العروس؛ لأخذ ملابس العروسين لغسلها وتجفيفها ثم إعادتها.
تقول عن اللحظة مستحضرة رعبها :
صعدت العروس تزف نحو أعالي الجبال، وكانت الصدمة أن 20 رجلًا من أصدقاء أبي يقاسمون العرسان (العليّة التي ستكون غرفتهما)، ولا يغادرون إلا سابع أيام الزواج.
تصف غرفتهما فتقول:
ستار من قماش يفصلنا عن الضيوف المكروهين الذين حولوا المكان وجعًا (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب)، كان علي أن أكون بنتًا للجبل .. أتحلى بعاداتهم … وأندمج في طقوسهم التي لا تطاق، وإن لم أفعل سأكون زوجة مناوئة، أطل بنظري نحو الوادي السحيق؛ فتنقبض روحي شوقًا لتلك الفضاءات التي كنت أجوبها كفراشة زاهية تحت وداعة أهل الوادي وبساطة أرواحهم.

أعود لإلقاء نظرة على كل ما حولي؛ فأجد القسوة والصلابة حتى في وجه زوجي الكئيب .. إيمانهم المرضي بالصعود جعل منه محنتهم .. معتقداتهم .. حكاياتهم .. أوهامهم صبغت الحياة بضجر لا يطاق لي كامرأة تنحدر من بطن الوادي الذي لا يؤمن أهله بأكثر من الامتداد الأفقي .. تكره الأعالي .. تخاف الصعود .. وتعاني فوبيا الارتفاعات.

شيخ الأعالي ذو الشعر الهذياني المسترسل بعبثية فوق أكتافه، وله أنف ساحرة شريرة لا يكف عن سرد القصص الرديئة ينقل عن جده، إنه نشر في القرية خبرًا يرونه مذهلًا – حين أفصح عن – أن ‏وراء (جبل التيس) وأبعد من (خبت صابر).. قرية تنمو فيها بدلًا عن أشجار السدر والعثرب والعرعر البيوت الشاهقة جدًا حتى أنها لا يهطل عليها المطر؛ لأنها أعلى من السحاب،وصعود أدراجها يستغرق 7 أيام بلياليهن.
تسمى بيوت “حطيب “
عجوز تدعى “صقارة” تمكنت من الصعود إلى أعلى القرية، وعادت بعد عام أكثر جمالًا وبعمر العشرين.. لكنها عادت تدعي أنها كانت في ضيافة الرب، وأن الإله يرتدي قبعة كبيرة تشبه قبة بيت المقدس.
لم تكن أمي كما تقول تقيم وزنًا لتلك الترهات والمبالغات الفجّة والممجوجة .
تقول فكرت بالهرب من هذا المكان المطبوع على قصص المتشدقين، والمتلهف إلى المزيد من الأخبار عن تلك القرية التي تهطل على رؤوس القرويين المتخمة بقصص الغرائب، والمتلهفين بنهم للطعام؛ حيث يبدو الجميع منتفخين زهوًا مثل قرود متباهية بنُهاتها القبيح.

كان على أمي أن تفعل وتقول لكل ما يغيظ أبي وأهل الجبل؛ فوجدت في الغرابة سبيلًا وفي الشعر طريقة للخلاص من أسر واقعها المؤلم.
تقول: كنت أسير في الطرقات
إلى الخلف وأردد:
الراعي يصعد الجبل ليرعى عنزاته
الشاعر يصعد الجبل ليرعى كلماته
التجاعيد تمخر وجه جد هرم
العم يشوي الجراد على الجمر
غيوم الوادي ممطرة
وأنا هنا تحت وطأة منفاي في رأس هذا الجبل البغيض

أحيانًا كنت أتسلى وأستمتع بتكسير زهور نبتة (المسيك) التي كانوا يعتبرونها مقدسة وتنتشر على امتداد الطريق، كانت هذه متعتي الوحيدة وفي أحيان كنت أحتال لأسعد بمسرات أخرى صغيرة.. كل يوم تحاول أمي جاهدةً ترميم مأساة ماضيها بالحديث عن سوءاته دون كلل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى