شغلتني طويلًا وبعمقٍ مفارقات العقل البشري، وتأرجُحِه الشديد بين الجمود الفظيع والتألق الباهر؛ فقرأت آلاف الكتب عن العقل وعن الدماغ وعن الطبيعة البشرية عمومًا وعن الإنسانية: تاريخًا وواقعًا … وعن الإنسان الفرد وظواهر التفاوت الشديد بين الأفراد، وبقاء النقائص حتى في العظماء ليس في أمة دون أخرى، وإنما على المستوى البشري في الماضي والحاضر.
قد يكون بديهيًّا وجود التفاوت الشديد بين الأفراد لكن اللافت وجود التفاوت الحاد بين حالات الفرد نفسه؛ فالمبدع لا تتفاعل طاقاته ويتألق عقله؛ فيتدفق عنده الإبداع إلا إذا انفعلت ذاته انفعالًا شديدًا وتأجج تفكيره؛ ففي هذه الحالة فقط يكون مبدعًا باهرًا، ولكنه في حالات أخرى قد يجد عقله لا يستجيب له ولا تُسعفه مواهبه حين يريد أن يبدع؛ فالإبداع ليس تحت الطلب ولا هو رهن الإرادة بل لا بد أن يكون الإبداع تلقائي التدفُّق وإلا فلن يكون.
إن قابليات الفرد واستجابات هذه القابليات هي ذات آليات تفاعلية لا تخضع لإرادة الشخص؛ فالعبقري ليس عبقريًّا في كل الحالات والمبدع ليس مبدعًا في كل وقت، وإنما تومض العبقرية ويتدفق الإبداع حين يكون الشخص في حالة توهُّج حاد أي حين يكون في حالة اهتمام تلقائي قوي مستغرق، ومن هنا تَوَصَّلت إلى نظرية عن العبقرية وهي أنها:
(اهتمامٌ تلقائي قوي مستغرق)
ويمكن تطبيق ذلك على كل العظماء، ومن هنا يفاجأ الناس بنقائص العباقرة؛ لأن العبقري ليس عبقريًا في كل حالاته بل هو عبقري فقط في المجالات التي يتأجج فيها اهتمامه، ويبلغ توقده النهاية القصوى.
وكنموذج على ندرة الإبداعية القصوى، عدتُ لدواوين الشاعر “نزار قباني” فقد قضى عمره في الشعر، وله شهرة إبداعية فائقة.. إن أشعاره تملأ ثلاثة مجلدات لكنك حين تقرأ كل هذه المجلدات لا تجد سوى قصيدة أو قصيدتين، قد بلغ فيهما الذروة الإبداعية إلى درجة باهرة حقًّا، ويجب تطبيق ذلك على كل العباقرة وكل المبدعين.
0