المقالات

إبداعٌ روائيٌّ مُلهِم

المؤرخون يدونون الحروب، ويسجلون الانتصارات والهزائم، ويخلدون نشوة المنتصرين وبؤس المهزومين، إنهم يخلدون أسوأ النزوات البشرية وأفظع الحماقات التي ترتكبها الأمم لا لضرورة تقتضي ذلك بل من أجل أن تكون صاحبة القرار الأنفذ والهيمنة.

أما الإبداعات الروائية فهي تصف أوضاع الأمم في حياتها العامة كما هي تمامًا، وتنشد الأرقى والأفضل أنها تُدَوِّن وتصف نمط الحياة السائدة وتقدم نماذج للبؤس الذي تعانيه بعض الطبقات.

إن الإبداعات الروائية تقدم نماذج لمختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، وتصف حياة عامة الناس، وكيف يعانون وكيف يتعاملون، إن الشخصيات الروائية تتجسّد في حياة العموم.
وعلى سبيل المثال؛ فإن المبدع الفرنسي الشهير بلزاك قدَّم في رواياته وصفًا دقيقًا ومفصلًا للكيفية التي كان يعيشها الفرنسيون في زمنه بل إنه يعتبر أن وصفه لحياة الفرنسيين هو وصفٌ لكل المجتمعات الإنسانية؛ لذلك فإن مشروعه الروائي العظيم يحمل عنوانًا عامًّا هو: (الكوميديا الإنسانية) فالحياة البشرية ملهاة ومأساة.
لذلك تجد روايات بلزاك تحمل عناوين تؤكد هذا المعنى مثل: رواية (الفلاحون) ورواية (قسيس القرية) ورواية (طبيب الريف)، وهكذا بقية مشروعه الروائي الضخم كان بلزاك لا يستهدف وصف الأوضاع وتسجيلها فقط، وإنما كان يصف ما هو كائن من أجل تغييره إلى ما يجب أن يكون.

إن الفن الروائي فنٌّ دقيق وعميق؛ فالإنجاز في العمل الروائي مرهق أشد الإرهاق؛ فقد كان بلزاك لا يتحرك إلا ومعه قلم وأوراق، إنه يختلط بالناس في المقاهي والمطاعم والأسواق والمنتديات والشوارع؛ ليسجل وقائع الحياة كما هي فعلًا؛ فالعمل الروائي ليس محض خيال ولكنه مع طاقة الخيال والمهارات والكفايات اللازمة له؛ فهو أيضًا استقصاء دقيق ومتابعة عميقة واهتمامٌ تلقائي قوي مستغرق وكنموذج على مصاعب العمل يقول بلزاك عن روايته (الفلاحون): (على مدى ثماني سنوات ولأكثر من مائة مرة وضَعْتُ هذه الرواية جانبًا ثم عُدْتُ من جديد)، ويقول: (إن عمل الإنسان الدؤوب والعنيد على نفسه وتنقيباته في مجال الإبداع تتطلب منه حشد جميع قواه فالعمل الإبداعي هو عملٌ منهك يخشاه ويكرس له نفسه؛ فليكن هذا معروفًا لمن يكرس نفسه للإبداع)، إن الإبداع الروائي من أعظم فنون الإبداع.

يقول المفكر الشهير جورج لوكاتش في كتابه (دراسات في الواقعية الأوروبية): (ما يجعل بلزاك رجلًا عظيمًا هو الصدق العنيد الذي صوَّر به الواقع حتى لو تناقض هذا الواقع مع آرائه وآماله ورغباته الشخصية)، ويضيف: (بلزاك كمفكر لم يكن عاديًّا في مستواه ولم يكن مشَرِّعًا أجوف الفكر كان بلزاك يريد أن يحذو التطور الفرنسي حذو النمط الإنجليزي)، هكذا قَدَّم بلزاك وصفًا واقعيًّا دقيقًا للمجتمع الفرنسي لقد وَصَف بأمانة ما هو كائن متطلعًا بلهفة إلى ما يجب أن يكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى