المقالات

واقع البلاد بعد توحيد الوطن

: لقد دأبتْ دول العالم المتحضّرة على الاحتفال بمناسباتها الوطنية كمحطّات تذكيرية تاريخية للأجيال الحاضرة بأهميّة حبّ الأوطان والانتماء إليها وتقديرها والدفاع عنها، والحرص على غرس القيم الحضارية في نفوس الأجيال الصاعدة للسَّيْر قدمًا على الخُطى نفسها. ومثل هذه الاحتفالات هي من صميم الوعي الوطني بالعُمق التاريخي لهذا الوطن وأمجاده، فضلاً عن كونها محطّة تدبّر وتأمّل تاريخي لمراحل تأسيس المملكة والاتعاظ بما جرى فيها من حوادث ومواقف، وهو ما نسمّيه الذاكرة الإيجابية التي تستحضر الماضي التاريخي لفهم الواقع الحالي والتخطيط لما هو قادم من مستقبل الأيام بحول الله تعالى وقوته.
وفي هذا المقام، يجب أنْ نذكر أنّ مملكتنا، مملكة التوحيد والطموح والرؤية، كغيرها من الأمم المتقدمة، تحتفل في هذه الأيام المباركة بأهم يوم من أيامها وهو اليوم الوطني لإعلان توحيد مملكة الخير والإخاء والبذل العطاء في 21 جمادى الأولى سنة 1351هـ/الموفق لـ 23 سبتمبر سنة 1932م، وهذا للتعبير على ضرورة الحفاظ على كافة مفاهيم الوحدة والوُدّ والسلام والتآخي بين مختلف فئات أبناء المجتمع، وللتعبير كذلك عن مدى حبّهم لبعضهم البعض ولقيادتهم الرشيدة، فقد اقتضتْ حكمة الملك عبد العزيز …….. ترسيخ الانتماء والولاء للوطن ليكون تاريخًا مجيدًا، وعيدًا وطنيًّا يتجدّد كل عام في يوم 23 سبتمبر (الأول من الميزان)، وهو اليوم السنوي للاحتفاء والاحتفال بما تحقّق من وحدة البلاد وتضامن العباد، ولاستذكار جهود الملك المؤسّس – طيّب الله ثراه – وتضحيات رجاله المخلصين لتوحيد هذا البناء الشامخ الراسخ، ولتعميق الانتماء للوطن والولاء للملك.
التَّبدِّي والتَّعمير:
قبل التوحيد: قُبيل قيام المملكة عانت البلاد من الدمار والخراب الذي خلفته قوات محمد عليّ باشا بقيادة ابنه إابراهيم باشا في وسط الجزيرة العربية، وما تبع ذلك مِن هدم الدرعية وتدمير الكثير من القرى والبلدات النجدية، وكانت البلاد في أسوأ حالة من الناحية التعميرية عندما غادر الإمام عبد الرحمن بن فيصل الرياض سنة 1309هـ/1891م.
بعد التوحيد: منذ أن بدأ الملك عبد العزيز رحمه الله خطواته الأولى سنة 1319هـ/1902م نحو تأسيس مملكة عصرية، عمل ولمدّة دامت ثلاثين عامًا على العناية بالإنسان السعودي كأهمّ لَبِنَة وأقواها في بناء الدولة، فاتّجهتْ عنايته إلى توطين أهل البادية – وكانوا جل السكان حينها – بتأسيس الهِجَر لنقل الحياة البدوية من طابع الرّحلة والتنقل إلى طابع الاستقرار والتمدّن من جهة، وزرع مصطلح الوطن والوطنية في أذهان نازليها من جهة أخرى، وكان من تلك الهِجَر هُجرة “الأرطاوية” سنة 1330هـ/1911م، وهُجرة “الغطغط” سنة ١٣٣١هـ/1913م، ثم‏ أخذ عدد الهِجَر في تزايد حتى بلغت حوالي مائتي هُجرة بُعيد ضم إقليم الحجاز إلى كيان الوطن، وقد صار مواطنو تلك الهِجَر مِن خير مَن أسهم في بناء الوطن، حيث انخرط عدد كبير منهم ضمن صفوف الجيش السعودي وفي مجالات التنمية المختلفة.
وفي عهد الملك عبد العزيز، وبالرغم من قلة الإمكانيات البشرية والمالية، فقد عُبّدتْ الطرق البرية، وامتدت كذلك سكة حديد بين الدمام والرياض، وتم تطوير الموانئ وتجهيزها بأرصفة تمتد إلى داخل البحر لتسهيل النقل البحري، ووُضعت نواة الطيران المدني، وبعبارة موجزة فقد أقام الملك عبد العزيز أول دولة حديثة على أرض شبه الجزيرة العربية منذ عدة قرون، بإمكانيات قليلة وفي وقت أقلّ.
الفوضى والأمن:
قبل التوحيد: كانت شبه الجزيرة العربية – لاسيما نجد والحجاز وما حولهما – طيلة قرون طويلة مكانًا مضطربًا معروفًا بقلّة الأمن، فكان لا يسافر من أهل البلدان أحد مسافة ولو قُصرت إلاّ تعرض لنوع من أنواع التّعدي، إما بالسلب أو بالقتل أو كلاهما معًا.
بعد التوحيد: عندما استتب الأمر لـلملك عبدالعزيز في الحجاز بشكل أكثر تمكينًا، قام بنشر الأمن وتأمين الأرواح والأموال، وبذل العفو لكل المناوئين له، بل وأسند لبعضهم عددًا من مناصب الدولة الكبيرة.
ومن مظاهر إرساء الأمن في عهد المؤسس رحمه الله، هو إنشائه لوزارة الداخلية سنة ١٣٥0هـ/١٩٣1م، وكانت قبل ذلك جزءً من النيابة العامة، وكان من الخطوات المهمة التي بادر إلى اتخاذها بعد ضمّ الحجاز هو إنشاء مديرية الشرطة العامة (أو الأمن العام) سنة ١٣٤٤هـ/١٩٢٥م، فقد عمل رحمه الله جهده على استتباب الأمن وتوفير وسائل الراحة والطمأنينة والاستقرار لكافة السكان من مواطنين ووافدين والسهر على حماية الأعراض والأموال والعقول، ومحاربة الجريمة بشتى أنواعها، وهو ما جعل المملكة اليوم تحظى بهذا المستوى الأمني الرفيع الذي تنفرد به بين أمم العالم، فقد بيّنتْ التقارير الأممية أن أن المملكة جاءتْ في المرتبة الأولى من بين دول “مجموعة العشرين”، متقدمة على الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، في “مؤشر شعور السكان بالأمان أثناء السير بمفردهم ليلاً لسنة 2020م، كما جاءت في المرتبة الأولى ضمن “مجموعة العشرين” في “مؤشر ثقة المواطنين بخدمات الشرطة”.
الأمّية والتّعليم:
قبل التوحيد: كان التعليم قبل قيام المملكة لا تحظى بالاحترام المجتمعي والتقدير المالي من الدولة، فلم يكن التعليم من المهن الرفيعة التي يتسابق الناس إليها ويتنافسون، لأن مداخيل المعلمين المالية كانت متدنية مقارنة بكثير من المهن الأخرى، ولأجل هذا فقد عرفتْ المنطقة تفشّي الجهل والأمية بشكل واسع، لأن العلم والتّعليم لا ينمُوان ولا يزدهران مع الفقر والفوضى وعدم الاستقرار، فشرط العلم هو بيئة مستقرة، وقدرة على الإنفاق، وتشجيع العلماء، وتوفير متطلبات الدراسة والبحث، وهذه كلها كانت مفقودة في المنطقة قُبيل قيام المملكة.
بعد التوحيد: إن الناحية التعليمية التي هي عماد تطور الدول وبها يُقاس المستوى الحضاري والرفاهي للأمم والشعوب ، لاسيما في العصر الحديث الذي صار بحقّ عصر العولمة والبحث العلمي، ورغم ضآلة الدخل وضعف الاقتصاد في ذلك الوقت، إلا أن التعليم كان في أولى اهتمامات الملك عبد العزيز، فقد بنى المدارس، وافتتح المعاهد والمكتبات العامة، وشجّع على طباعة الكُتب النافعة ونشرها وتوزيعها على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مجّانًا، وحمى العلماء واستضافهم في المملكة وأكرمهم، وكان كثير الاحتفاء بالعلماء القادمين إلى المملكة في موسم الحج خاصة.
وقد نهج أبناؤه الملوك نفس النهج من بعده، فعمّموا التعليم الأساسي الإجباري على جميع أبناء الشعب، ذكورًا وإناثًا، كما اجتهدوا في تعميم نوع فريد من التعليم وهو تعليم الكبار أو ما يُسمّى بمحو الأمية، وهو جزء أساسي من خطة التعليم في هذه البلاد للنهوض بالمجتمع وضمان ازدهاره واطراد تطوّره، حيث صدر الأمر السامي الكريم في سنة 1392هـ/1972م بالموافقة على نظام تعليم الكبار والكبيرات ومحو الأمية بالمملكة، ومن خلال تجربة المملكة الرائدة في هذا الميدان، فقد انخفضتْ نسبة الأمية في البلاد من 60% سنة 1392هـ/1972م إلى نسبة 4 % سنة 1433هـ/2012م.
ها نحن نرى اليوم الجامعات الحديثة وكلياتها المتخصصة وكوادرها العلمية الرفيعة في كافة مناطق ومدن المملكة الكبرى، ونرى كيف يتخرج منها كل عام العديد من الجامعيين المؤهلين تأهيلاً عاليًّا في جميع التخصصات التي تحتاجها البلاد، بل إن القيادة الرشيدة حثّتْ القائمين على التعليم على استقدام المدارس والجامعات العالمية في مرحلة أولى، ثم عملت على توطين هذه التجارب التعليمية والتربوية في البلاد، وبهذا استطاعتْ المملكة أن توظف ثرواتها المالية للاستثمار في التعليم، وهو يعني الاستثمار في أجيالها القادمة.
الفقر والاقتصاد:
قبل التوحيد: لم تكن الحياة سهلة في المملكة قُبيل قيامها بالرغم من تخلّل بعض الفترات الزمنية التي وُصفت بأنها كانت هنية رغدة، فقد كانت المنطقة منذ أواخر العهد العثماني تتعرض لمسبّبات الفقر والعوز من الآفات البشرية (كالسرقة وقطع الطريق ممّا يُعطّل التجارة ويكدّر الأمن فيزداد بالتالي الفقر والحاجة) أو الكوارث الطبيعية (كالسيول والقحط وانتشار الجراد والأوبئة وغيرها)، وكان السبب الأساسي وراء ذلك الفقر وتلك الحاجة هو غياب اقتصاد وطني متكامل بسبب سوء الإدارة الحاكمة وظُلمها.
بعد التوحيد: بعد أن أعلن الملك عبد العزيز انتهاء توحيد البلاد سنة 1351هـ/1932م، بدأ في تنويع اقتصاد المملكة وتمتين نظامه المالي، فقام بإنشاء وزارة المالية سنة ١٣٥١هـ/١٩٣٢م، ثم أمر سنة ١٣٧٠هـ/١٩٥٠م بإنشاء ديوان للشؤون الاقتصادية وربطه بوزارة المالية، وفي سنة ١٣٧2هـ/١٩٥2م أمر بإنشاء “مؤسسة النقد العربي السعودي” كمصرف مركزي للمملكة، وبعد الملك عبد العزيز رحمه الله، حرص أبناؤه الملوك على تنويع مجالات اقتصاد المملكة الذي اعتمد على خلق منتجات تساعد وتقوي المنتجات البترولية ضمن النمو الاقتصادي المستمر في البلاد، وقد اتسمت مسيرة التنمية الاقتصادية في المملكة بأنها شاملة، وذلك عن طريق تنويع وزيادة الصادرات، ونشر التقنية التكنولوجية المتطورة، والأساليب الإدارية الحديثة، والعمل على توسيع توظيف المواطنين السعوديين. فكانت قوة الاقتصاد السعودي وتنوعه دعامة أساسية في تحقيق الطموحات وبناء الوطن، وتأمين الخدمات العامة لمتطلبات الدولة والمجتمع، وتثبيت قواعد وأسس إدارة أعمال الدولة، وتحسين المستوى المعيشي للمواطن السعودي.
وما يجدر ذكره في هذا المقام، أن “تقرير التنافسية العالمي” الصادر عن “المنتدى الاقتصادي العالمي»” أظهر تقدم المملكة ثلاثة مراكز أخرى والوصول إلى المرتبة 36 دوليًّا على صعيد التنافسية الدولية، حيث أشار التقرير إلى أن المملكة تتقدم بخطوات حثيثة لتنويع اقتصادها، وإصرارها الواضح على إجراء الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، ومتابعة ثم معاقبة جميع مظاهر الفساد الاقتصادي مهما كان صغيرًا.
المرض والصحة:
قبل التوحيد: انتشرتْ الأمراض المستفحلة والأوبئة المعدية بقوة في عموم شبه الجزيرة العربية قبل قيام المملكة، وكانت الرعاية الصحية تعتمد على تقصي أسباب المرض وعلاجه بالاستعانة بالنجوم أو الرُّقى أو الحجامة والحِمْية أو العلاج التقليدي الشعبي بالأعشاب والعقاقير والترياق المضاد للسموم والكي بالنار، فكانت المنطقة تحت سيطرة مُدّعي الطب والكهانة والطب الشعبي والتقليدي رغم جدوى بعضه، وكانت غائبة لقرون عديدة عن مشهد العمل الصحي الحديث والمتنامي بين بعض الشعوب خاصة في أوروبا، ولم تكن الخدمات الصحية تحظى بأي اهتمام من السلطات الحاكمة في العهدين السابقين للعهد السعودي، وهما العهد العثماني والعهد الهاشمي.
بعد التوحيد: لم يذّخر الملك عبد العزيز – رحمه الله – جهده طوال سنوات حُكمه التي بلغتْ نصف قرن من الزمان في خدمة شعبه: فقد حارب الأوبئة ومنع انتشارها بإنشاء بالمحاجر الصّحية (الكرنتينات) على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، كما قام بإطلاق حملات التّطعيم المنظمة، وأنشأ المؤسّسات والإدارات الصّحية (حوّل مديرية الصحة والإسعاف إلى وزارة الصحة سنة (١٣٧٠هـ/١٩٥٠م)، ووضع التّشريعات والقوانين والأنظمة الصّحية، واستقدم الأطباء الأجانب من ذوي الخبرة العالية للمساعدة في خدمة الشعب صحيًّا، دون أن يغفل عن الخطوة الأهم وهي بناء الكوادر الطبية والصحية الوطنية، حيث مكّن المواطنين من بناء وقيادة المؤسسات الصحية داخل البلاد.
وقد استمرّ أبناؤه الملوك في استكمال المسيرة الصحية التي بدأها الملك المؤسّس، فوفّروا الرعاية الصحية الشاملة المتكاملة لجميع السكان وبطريقة عادلة وميسّرة، ومن ذلك توفير الرعاية الصحية للمسنين – وهم من بلغت أعمارهم 65 وأكثر – وفق برامج رعاية خاصة متناسبة مع احتياجاتهم، كما عملتْ القيادة الرشيدة على المواكبة الدائمة لآخر الاختراعات الطبية الحديثة لتوفير احتياجات القطاع الصحي دون تأخير، حيث أنشأتْ منظومة حديثة جدًّا للمرافق الصحية تشمل جميع المدن الطبية والمستشفيات التخصصية والجامعية والعسكرية ومراكز الرعاية الأولية، كلُّ هذا مع تسهيل وتمويل سفر المواطن إلى الخارج للعلاج في حالة تعذر علاجه داخل المملكة.

• دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى