كان يوما مثقلا بالحرارة والرطوبة في آن، عدت إلى فراشي بعد أداء صلاة الفجر كيما أحاول استحلاب مزيد نومٍ من ضحي ذلك النهار القائظ، فمتقاعد مثلي لم يعد لديه ارتباطات ميعة الشباب وما بعدها، فلا أطفال يصرخون، ولا صبية ننقلهم للمدارس، ولا توقيع حضور وانصراف في دفتر الدوام,
.
بعد ساعات صحوت على وقع تلاشي الضوء الخافت على الكومودينو القريبة من رأسي، وتوقف مكيف الهواء في غرفتي عن صخبة اللذيذ، فأنا من عشاق مكيف الشباك، بينما عائلتي اختاروا الـ”سبليت”.
.
صوت هديره يخفف عني صخب الشارع، حتى أن زوجتي مازحتني ذات مرة بسؤال مباغت، مثل هدف كرة مقصيّة “دبل كيك” للساحر رونالدو …
– ماذا لو اقتلعوا مكيفك هذا لعدة أيام من حائط غرفتك؟
أجبتها بسرعة وبهجمة مرتدة معاكسة: أضع تسجيلًا صوتيًا بجانبي لصوت مكيف قديم صاخب، وعمنا الشاعر الأسطوري المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس يسندني عندما قال: (لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا).
وكذلك ما يراه أهل الاختصاص من أن المرء بعد الخمسين يألف نمط حياة معين، لا يرتاح لتغييره مخافة تعرضه لصدمة نفسية.
.
نعود لموضوعنا وأقول إنني صممت على معرفة السبب وراء انحباس الكهرباء عن شقتنا، خصوصا وأنني حريص على تسديد فواتير الخدمات أولا بأول – الكهرباء الهاتف الماء- وهذه الجهات الثلاث أعدهم من أكثر أصدقائي وفاءً، والدليل أن التواصل بيننا مزدهر، فرسائلهم لا تتوقف عني شهريًا في حرص منهم على المودة والحب من غير جفوة أو “تطنيش”.
.
هبطتُ منسلًا إلى أسفل العمارة وإذ بي أمام ما لم أكن أتوقع، ثلاثة من مهندسي شركة الكهرباء، وقد اقتلعوا الـ 6 عدادات وطرحوها أرضًا، ثم بدأوا يُعمِلون فيها مقصاتهم ومفكاتهم، صحت مفجوعًا: (يا لله علم خير) وأدركت حينها أننا سنعيش مع جيراني في عمارتنا ساعات من الجحيم نصارع الحرارة والرطوبة، سألتهم، فقالوا: صيانة – صيانة يا عمو – استبدال العدادات بأخرى جديدة، ولن نتأخر، ممكن أربع ساعات…..!
هكذا إذن (رددت بحنق)، ولكن لِمَ لم تخبرونا برسالة SMS حتى نعيش معكم طقس هذه “الغزوة الجميلة”؟
.
تراجعت للوراء وتذكرت شيئا مهما، وبدأت أحك رأسي بعصبية، وأكاد أصرخ …. اللحمة …. اللحمة – ما مصيرها؟ .. والواقع أنني اتفقت مع أحد الأصدقاء على شراء تيس حري خفيف لطيف من تيوس تهامة اللذيذة، على أن نقتسمه، صديقي خارج المدينة لظرف ما، وضرب لي موعدا الثالثة قبل العصر، ليأتيني ويتسلم نصيبه.
.
يا للحظ التعيس، يبدو أن التيس الذي يرقد بسلام في “فريزر” ثلاجتنا قد صار مصيره في مهب الريح، وبات مستقبله بين يدي أولئك الرهط من القوم، الذين إما أن يُسرّعوا عملهم فينجو من العفونة، أو أن نظل كلينا عائلتي وعائلة صديقي نندب حظنا.
.
أحد جيراني رأيته وقد حشر أطفاله في سيارته وظل يلف ويدور في الشوارع القريبة بدون هدف، يتسكع بهم تحت نسائم مكيف سيارته، عائلتين آخريين ظلوا يتواصلون معنا -أنا و زوجتي- ونحن في سيارتنا ينتظرون أن نزف لهم الخبر السعيد بعودة تدفق الكهرباء في شرايين شبكة العمارة، وتحولت سيارتي إلى “غرفة عمليات متنقلة”، خلال جولاتي المكوكية بين أولئك المهندسين، والتيه الذي كنت أسبح فيه يمنة وشملة ألف وأدور حول حارتنا.
.
تذكرت شيئًا، البنك كرر رسالته لي أن أسرع في تحديث معلوماتي، فكرت: لِمَ لا أزوره استثمارًا لهذه الساعات المهدرة، المكان قريب، أمام البنك مواقف مثالية للمراجعين، لكن عليها يافطات إنها مخصصة لـ (….) أي أصحاب الأرصدة المتضخمة، حسنا – وأين أقف أنا … في الموقف الخلفية البعيدة، مؤلم أن يتم تصنيف الناس بحسب ما في جعبتهم من أوراق “البنكنوت” الملونة، حتى ولو أن أحدهم لا يعرف نطق عدة جمل مفيدة.
.
في معظم لحظات تجوالي، ظلت أذناي تتعهدان راديو سيارتي وهو ينقل تداعيات مصرع الهالك حسن نصر الله، وكيف تحول في غمضة عين مع 20 من زمرته إلى حطام، في نهاية دراماتيكية لمن باع نفسه للشيطان، وتمظهر بدور المقاومة الهلامية، فخاتمته انكشاف حقيقة أمره وأنه مجرد “نمر من ورق”.
عادت الكهرباء، نجا تيسنا الأصيل الحلو الرابض في ثلاجتنا، بينما الأنباء المتواترة من بعيد تؤكد نفوق التيس المستعار العميل في “الضاحية الجنوبية”.
0