*= قبل الشروع في ورقة البحث هذه نبين مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته وهو مذهب يقوم على إثبات الصفة وإمرارها كما جاءت , وعلى الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى من غير تحريف ولا تعطيل , ولا تكييف ولا تمثيل عملاً بقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ردٌّ على المشبهة والممثلة ( وهو السميع البصير ) ردٌّ على الملحدة والمعطلة . فلا يشبهه أحدٌ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
قال تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) فقد سمى نفسه بأسماء, ووصف نفسه بصفات فالواجب إثباتها وإمرارها كما جاءت { الرحيم والعزيز والقدير والسميع والبصير والرؤوف والغفور والعليم .. } فالرحمن الرحيم اسم ,والرحمة صفة ,والعليم اسم والعِلْم صفة ,والقدير اسم والقدرة صفة ,والخبير اسم والخبرة صفة , والحكيم اسم والحكمة صفة , والعظيم اسم والعظمة صفة . فالله تعالى يوصف بصفات كالكلام والإرادة والنزول والضحك والعجب والاستواء , ولا يشتق له منها أسماء فلا يسمى بالمتكلم ولا بالمريد ولا بالنازل ولا بالضاحك ولا بالمستوي .
قال رجل للإمام مالك : ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فقال له رحمه الله : الاستواء معلوم والكيف مجهول ,والإيمان به واجب ,والسؤال عن ذلك بدعة . وهذه قاعدة في جميع الصفات وضعها الإمام مالك ,فسار عليها علماء السنة والجماعة كافة إلى يوم الدين .
ومعنى قوله { معلوم } أنه العلو فوق العرش , هذا الاستواء أي ارتفع عليهم وعلا عليه جلّ وعلا استواءً يليق بجلاله لا يشابه خلقه في استوائهم ,ولا يكيف لأن الكيفية لا يعلمها إلا الله . أما من ذهب إلى أن استوى بمعنى استولى فهذا باطل وحرام وهو قول الجهمية
وأما قوله تعالى : (وجاء ربك ) فمعناه ان الله تعالى يجيء هو نفسه يوم القيامة مجيئاً حقيقياً ,وليس معناه كما يقول المعطلون : ( جاء أمر ربك ) ,ولذا لا يجوز صرف اللفظ إلى غيره وإثبات خلافه .
ومنه قوله تعالى : ( تجري بأعيننا ) أي بمرأى من الله تعالى فهو يراها ويرعاها بعينيه تعالى , وقد فسر ابن عباس قوله تعالى : ( ولتصنع على عيني ) بأنها العين الحقيقية والمعنى أن موسى – عليه السلام – يرب على عين الله أي : على رؤية بعين الله تعالى .
ومنه قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) ليست بمعنى النعمة والقدرة بل يدٌ حقيقية يعلمها الله ,لا نكيفها ولا نعطلها ولا نحرفها ولا نشبهها .
وقوله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهذه الآية ذكرها بعض الأصوليين لإثبات المجاز في القرآن ، فعلى هذا المذهب أن في الآية مجازا يكون المعنى : أن الله منور السموات والأرض بالنور المخلوق أو هادي أهلها .
والحق عند أهل السنة أن الآية على حقيقتها لا مجاز فيها ، وأن من أسمائه تعالى النور ، وهو اسم تلقته الأمة بالقبول ، وأثبت في الأسماء الحسنى ولم ينكره أحد من السلف، ومحال أن يسمي الله نفسه نورا ، وليس له نور ولا صفة النور ثابتة له ، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإثباتها على حقيقتها .
وكذا نثبت صفة القرب والنزول والوجه والضحك والأصبع واليد والقدم والنفس والمعية والكلام والحب والغضب والرضا والسخط بما يليق به سبحانه وتعالى يعلمها ولا نعلمها نقرّها ونمرها بما يريد سبحانه وتعالى { إياك أريد بما تريد } ولا نصرفها إلى المجاز مطلقاً .
قال الشافعي : ( آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله , وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ) .
وما ذكرت هذه التوطئة إلا أن منشأ الخلاف في حقيقة وقوع المجاز وعدمه كان بسببها , وإذا تبين ذلك فاعلم أن :
الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز , وقبل الشروع في دراسة هذا الموضوع يحسن أن نشير إلى أمرين : أحدهما : مفهوم الحقيقة والمجاز .
والثاني : قضية المجاز في اللغة والقرآن وموقف العلماء منها .
*= والحقيقة في اللغة : مشتقة من حق الأمر يحق ( بكسر الحاء وضمها ) حقاً وحقوقاً وحقيقة أي صار حقاً إذا ثبت ووجب ( ) . والحاء والقاف أصل واحد وهو يدل على إحكام الشيء وصحته ( ). وفي الاصطلاح : هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له في الأصل أولاً من غير تأويل في الوضع . مثل كلمة { أسد } تدل على الحيوان , وكلمة { الشمس } تدل على الكوكب العظيم ,وكلمة { البحر } تدل على الماء العظيم ( ) .
*= أما المجاز لغة من جاز يجوز جوزاً وجوازاً إذا تعدّى وانتقل من مكان إلى آخر , وهو اسم للمكان الذي يجاز فيه كالمطاف والمزار ( ) والالف فيه منقلبة عن واو , وقيل : هو مصدر ميمي من جوز , يقال : جزت الطريق وجاز الموضع جوازاً ومجازاً , والمجاز والمجازة الموضع ( ) .
وفي الاصطلاح : هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل لعلاقة بين المعنيين – الحقيقي والمجازي – مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي ( ).
وتنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام { الحقيقة اللغوية / الوضعية , الحقيقة العرفية , الحقيقة الشرعية } فاللغوية هي : اللفظ لمستعمل فيما وضع له أولا في اللغة ، كالأسد المستعمل في الحيوان الشجاع المعروف
والعرفية : هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بعرف الاستعمال اللغوي وهي ضربان : عرفية عامة وعرفية خاصة
فمن الأول : أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام ، ثم يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته ، كاختصاص لفظ الدابة بذوات الأربع عرفا ، وإن كان في أصل اللغة لكل ما دبّ .
ومنه : أن يكون الاسم في أصل اللغة بمعنى ، ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن الموضوع اللغوي بحيث إنه لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره ، كاسم الغائط فإنه وإن كان في أصل اللغة للموضع المطمئن من الأرض ، غير أنه اشتهر في عرفهم بالخارج المستقذر من الإنسان . حتى إنه لا يفهم من ذلك اللفظ عن إطلاقه غيره ومن العرفية الخاصة ما تعارف عليه أهل كل فن كالحد والرسم عند المناطقة ، والرفع والنصب عند النحاة ، والكسر والقلب عند الأصوليين ونحو ذلك .
والحقيقة الشرعية : هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل الشرع ، كاسم الصلاة ، والزكـاة ، والحــج ونحوها.
والمعنى الاصطلاحي للمجاز مستوحى من المعنى اللغوي فهو انتقال باللفظ من معنى إلى معنى , كما أن المجاز في اللغة تعدّي الموضع وقطع الطريق من أحد جانبيه إلى الآخر .
وينقسم المجاز إلى قسمين : مجاز لغوي فيكون مفرداً ومركباً , فالمفرد هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة بين المعنيين مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي , فإذا كانت العلاقة المشابهة يسمى المجاز هنا استعارة مثل : لدى أسد شاكي السلاح , فالأسد هنا مستعار للرجل الشجاع . وإذا كانت العلاقة غير المشابهة كالسببية أو الكلية أو الجزئية يسمى مجازاً مرسلاً .
أما المركب فهو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة كقولهم : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى , فيسمى التمثيل على سبيل الاستعارة .
والثاني المجاز العقلي فهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له علاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي كقول المؤمن : أنبت الربيع البقل , فالربيع وإنبات البقل كلاهما مستعمل في حقيقته والتجوز إنما هو في إسناد الإنبات إلى الربيع وهو الله تعالى .
وله أسماء كثيرة منها : المجاز في الإسناد , ومجاز الملابسة , والمجاز الحكمي , والمجاز النسبي وغيرها .
*= أما قضية المجاز ووقوعه في اللغة والقرآن , فقد اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن على أقوال منها :
الأول : الجواز والوقوع مطلقا ، وإليه ذهب الجمهور من المفسرين والأصوليين واللغويين والبلاغيين , بل حكى الإجماع على ذلك العلوي صاحب الطراز ( )
الثاني : المنع مطلقا , وهم على قولين : الأول : ذهب أبو إسحاق الإسفراييني من الشافعية وأبو علي الفارسي إلى منع المجاز في اللغة . وهو قول المحققين من العلماء . والثاني : الأئمة داود الظاهري وابنه محمد والجزري ومحمد بن خويز منداد من المالكية وابو الفضل التميمي من الحنابلة إلى منع المجاز في القرآن ( )
وشبهتهم : الأولى أن المجاز عند من يقول به لا يدل على معناه إلا بمعونة القرينة , وهذا – كما يقول داود – تطويل بلا فائدة , ومع عدم القرينة يكون فيه إلباس .
والشبهة الثانية : لو سلمنا أن في القرآن مجازاً – والقرآن كلام الله – لقيل لله { متجوز} يعني متكلماً بالمجاز , وهذا الوصف لا يطلق على الله باتفاق علماء الأمة . وسيأتي – بإذن الله – دحض شبهتهم قريباً
القول الثالث : المنع في القرآن وحده ، وهــو قول بعض العلــماء منهم داود بن علــي ومن الشافعية ابن القاص ومن المالكية ابن خويز منداد . ومن الحنابلة جمع منهم : أبو الفضل التميمي بن أبي الحسن التميمي ، وأبو عبد الله بـن حامد وغيرهــــما .
القول الرابع : المنع في القرآن والسنة دون غيرهما . وهو قول ابن داود الظاهري .
القول الخامس : التفصيل بين ما فيه حكم شرعي وغيره ، فما فيه حكم شرعي لا مجاز فيه ومالا فلا .
ونقتصر هنا على قولين مشهورين :
**- القول الأول : أن المجاز واقع في اللغة والقرآن مطلقاً وهذا مذهب جماهير العلماء والمفسرين والأصوليين واللغويين والبلاغيين , بل حكى الإجماع على ذلك العلوي.
*= ويشهد لهم : أن الاسم في لغة العرب منقسم إلى الحقيقة والمجاز ، وهذا التقسيم معتبر عند علماء العربية ، ومشتهر في استعمالات العرب ، والقرآن هو أصل اللغة ، ومعينها ، فمحال أن يأتي بخلاف ما عليه أهل اللسان العربي ، من تقسيم الاسم إلى حقيقة ومجاز .
وأن الأمثلة على وقوع المجاز في القرآن وغيره كثيرة جدا ، وهي أشهر من أن تنكر كقوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ } ، { جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ } ، { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } { يجعلون أصابعهم في آذانهم } , { واشتعل الرأس شيباً } { والصبح إذا تنفس } , { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } ..وغيرها
ووجه الاستدلال من هذه الآيات أنها استعملت في غير ما وضعت له أولا في أصل الوضع . فقوله { جناح الذل } الجناح حقيقة للطائر من الأجسام ، والمعاني والجمادات لا توصف به ، فإثباته للذل مجاز قطعا . والسؤال لأهل القرية ، وليس لها ، فهو مجاز بالحذف . والجدار لا إرادة له ، إذ الإرادة حقيقة من خصائص الإنسان أو الحيوان وإنما هو كناية عن مقاربته الانقضاض لأن من أراد شيئا قاربه فكانت المقاربة من لوازم الإرادة، فتجوز بها عنها
*= ومن العلماء القائلين بالمجاز في اللغة والقرآن الإمام سيبويه (ت 94هـ ) قال :” وقالوا – أي العرب – يا للعجب , ويا للماء كلما رأوا عجباً وماء كثيراً كأنه يقول : تعال يا عجب , تعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك . ومثل ذلك قولهم : يا للدواهي أي تعالين فإنه لا يستنكر لكنّ لأنه من أحيانكنّ .. وكل هذا في معنى التعجب والاستغاثة وإلا لم يجز ” ( ) . *= ويشير الإمام الفراء (ت 207هـ ) كثيراً إلى خروج الاستفهام عن معناه الوضعي إلى معان مجازية كالتعجب والتوبيخ والإنكار لا على سبيل الاستفهام المحض كما في قوله تعالى : ” كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ” ( )
*= ويقول ابن قتيبة ( 276هـ ) : ” وللعرب المجازات في الكلام ومعناها طرق القول ومآخذه ففيها الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح … مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز ” ( )
*= ويقول الإمام ابن قتيبة رداً على الملحدين والطاعنين : ” وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب , لأن الجدار لا يريد أن ينقض , والقرية لا تسأل وهذا من أشنع جهالاتهم وأدلها على سوء نظرهم وقلة أفهامهم , ولو كان المجاز كذباً وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلاً كان أكثر كلامنا فاسداً , لأنا نقول : نبت البقل وطالت الشجرة وأينعت الثمرة وأقام الجبل ورخص السعر .
ونقول : كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا , والفعل لم يكن وإنما كوّن , ونقول : كان الله وكان بمعنى حدث , والله عز وجل قبل كل شيء بلا غاية لم يحدث فيكون بعد إن لم يكن .والله تعالى يقول : { فإذا عزم الأمر } وإنما يعزم عليه . ويقول : { فما ربحت تجارتهم } وإنما يربح فيها , ويقول : { وجاءوا على قميصه بدم كذب } وإنما كُذّب به .
*- ولو قلنا للمنكر لقوله تعالى : { جداراً يريد أن ينقض } كيف كنت أنت قائلاً في جدار رأيته على شفا انهيار ؟ رأيت جداراً ماذا ؟ لم يجد بداً من أن يقول : جداراً يريد أن ينقض أو يكاد ينقض أو يقارب أن ينقض , وأيّاً ما قال فقد جعله فاعلاً …”( ) . ويقول أيضاً : ” وتقول العرب في مهلك رجل عظيم الشأن رفيع المكان عام النفع كثير الصنائع أظلمت الشمس له وكسف القمر لفقده وبكته الريح والبرق والسماء والأرض يريدون المبالغة في وصف المصيبة به وأنها قد شملت وعمت وليس بكذب لأنهم جميعاً متواطئون عليه والسامع له يعرف مذهب القائل فيه ” ( ).
*= ويثبت الإمام أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (ت 328هـ ) المجاز في اللغة والقرآن ويذكره بلفظه في مقابل الحقيقة , ويظهر هذا من تناوله لبعض الألفاظ في كتابه { الزاهر في معاني كلمات الناس } ومن ذلك ما قاله في وصف الله بالمخادعة والعجب , فقوله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } أي يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر فجازاهم بمثل فعلهم , فسمى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء . وقد يكون قوله { خادعهم } بمعنى معاقبهم ,فسمى المعاقبة خداعا لأن الخادع غالب ,والغالب قادر على المعاقبة .
وقوله: { بل عجبت ويسخرون } أي جازيتهم على عجبهم من الحق فسمى فعله باسم فعلهم . وقد يكون معنى { عجبت } أي عظمّت ثوابهم فسمى تعظيم الثواب عجبا لأن المتعجب من الناس إنما يتعجب من الشيء ( ).
ومن إثباته للمجاز قوله : ” العرب تسمي الحجة في المجاز يداً فتقول : الصحيح اليد , ويقول الرجل لمخاطبه قطعت يدي ورجلي أي ذهبت بحجتي وما أعول عليه ” ( )
*= ولم يذكر أبو منصور الأزهري (ت 370هـ ) صاحب تهذيب اللغة المجاز باسمه وإنما ذكره بلفظ الاستعارة ومن ذلك قوله في حديث أم زرع : “{ وعنده أقول فلا أُقبّح , وأشرب فأتقمح } . أصل التقمح في الماء فاستعارته في اللبن , أرادت أنها تروي من اللبن حتى ترفع رأسها عن شربه كما يفعل البعير إذا كره شرب الماء ” ( ) . وقال في العثا : ” يقال شاب عثا الأرض إذا هاج نبتها , وأصل العثا الشعر ثم يستعار فيما تشعث من النبات ” ( ) , ويقال لقحت المرأة إذا حملت , وأصل اللقاح للإبل ثم استعير في النساء ( )
والعرب تقول { أنت عليّ كظهر امي } فخصوا الظهر دون البطن والفخذ والفرج – وهذا أولى بالتحريم – لأن الظهر موضع الركوب والمرأة مركوبة إذا غشيت , فأقام الظهر مقام الركوب لأنه مركوب وأقام الركوب مقام النكاح لأن الناكح راكب وهذا من لطيف الاستعارة والكناية ( ).
*- ولأبي الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 386هـ ) كتاب النكت في إعجاز القرآن وكانت أولى الاستعارات التي ذكرها هي قوله تعالى : ” وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً ” ,وقال في بيانها : حقيقة قدِمنا عمدنا ,وقدِمنا أبلغ منه ؛ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه عاملهم من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم , ثم قَدِم فرآهم على خلاف ما أمرهم به وفيه تحذير من الاغترار بالإمهال , والمعنى الذي يجمعها العدل ,لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل والقدوم أبلغ كما بينا , وأما هباء منثوراً فبيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه حاسة “( ). والاستعارة التي ذكرها استعارة تصريحية تبعية .
*= وعقد عثمان ابن جني ( 392هـ ) في الخصائص بابا في الفرق بين الحقيقة والمجاز , وقال فيه : ” وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي : الاتساع والتوكيد والتشبيه ,
فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتّة , فمن ذلك قوله تعالى : ” وأدخلناه في رحمتنا ” ,فهذا مجاز وفيه الأوصاف الثلاثة , أما السعة فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحالّ اسمًا هو الرحمة , وأما التشبيه فلأنه شُبه الرحمة – وإن لم يصح دخولها – بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه . وأما التوكيد فلأنه أخبر عن العَرَض بما يُخبر عن الجوهر “( ) .
وكذلك قوله : ” واسأل القرية التي كنّا فيها ” قال : ” فيه المعاني الثلاثة أما الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله , وأما التشبيه فلأنها شُبهت بمن يصح سؤاله لما كان بها ومؤلفا لها – أي من ألف المكان وأحبه , وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال على من ليس من عادته الإجابة “( )
*= وذكر ابن فارس (ت 395هـ ) المجاز بلفظه مقابلاً للحقيقة في كتابه الصاحبي ورأى أن المجاز من سنن العربية وافتنانهم , ويقول عن الحقيقة : ” الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم فيه ولا تأخير … وهذا أكثر الكلام “( ) . ويقول عن المجاز :” فهو بخلاف الحقيقة لما فيه من تشبيه واستعارة وحذف وغير ذلك مما لا يجري بيانه وتركيبه مجرى الحقيقة” ( ) .
**- أما الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت471هـ ) فقال : ” ومن قدح في المجاز , وهّم أن يصفه بغير الصدق فقد خَبَط خَبْطاً , ويهرف بما لا يخفى – أي أصابه الهذيان – , ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به حتى تُحصّل ضروبه , وتُضبط أقسامه إلا للسلامة من مثل هذه المقالة , والخلاص مما نحا نحو هذه الشبهة لكان من حق العاقل أن يَتَوفّر عليه , ويصرف العناية إليه , فكيف وبطالب الدِّين حاجةٌ ماسةٌ إليه من جهات يطول عدُّها , وللشيطان من جانب الجهل به مداخلُ خفيّةٌ يأتيهم منها فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون , ويُلقيهم في الضلالة من حيث ظنوا أنهم يهتدون “( )
*- وقال في موضع آخر : ” وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غيرُ ما وقعت له في وضع واضعها ,لملاحظةٍ بين الثاني والأول فهو مجاز , وإن شئت قلت : كل كلمة جُزْتَ بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعاً لملاحظة بين ما تجوز بها إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز ” ( ).
*- ويقول الزركشي و يوافقه السيوطي : ” وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه , وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير , وذلك محال على الله تعالى , وهذه شبهة باطلة ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن , فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة “( ) .
*= ومن المفسرين الذين أثبتوا المجاز في القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ ) يقول عند تفسير قوله تعالى : { ذوقوا مس سقر } ” إن قال قائل : وكيف يُذاق مس سقر ؟ أَو له طعم فيذاق ؟ فقيل : ذلك كذلك على مجاز الكلام , كما يقال : كيف وجدت طعم الضرب ؟ وهو مجاز “( )
*= ويقول الإمام البغوي (ت 516هـ ) عند تفسير قوله تعالى : { فوجد جداراً يريد أن ينقض } , أي يسقط , وهذا من مجاز كلام العرب ؛ لأن الجدار لا إرادة له , وإنما معناه : قرب ودنا من السقوط , كما تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها “( ). وعند قوله تعالى : ” واعتدت لهن متكأ ” قال : ” قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد { متكأ أي : طعاماً . سمّاه متكأ ؛لأن أهل الطعام إذا جلسوا يتكئون على الوسائد فسمّي الطعام متكأ على الاستعارة ” ( ).
*= وعند تفسير ابن كثير لآية الكهف” فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض ” قال : ” إسناد الإرادة ههنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة ,فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل , والانقضاض هو السقوط” ( ).
*- ويعد الإمام الشافعي ( 204هـ ) أول من ألف في علم الأصول وأورد في كتابه الرسالة مسائل هي من صميم مباحث المجاز , وإن لم يسمه باسمه مثل { العام الذي يراد به الخاص , ومثل : إقامة المضاف إليه وإجراء أحكامه عليه مع تأويله مجازيا , ومثل قوله : وظاهراً يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره ” ( )
*- وعنون في الرسالة { الصنف الذي يبين سياقه معناه } قال الله تبارك وتعالى : ” واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر … ” ابتدأ جلّ ثناؤه ذكر المار بمسألتهم عن القرية الحاضرة فلما قال : ” إذ يعدون في السبت ” دل على أنه إنما أراد أهل القرية لأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون ثم قال : ” وقال : { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة … ” وهذه الآية مثل الآية قبلها فذكر قصم القرية فلما ذكر أنها ظالمة بَانَ للسامع أن الظالم إنما هم أهلها دون منازلها التي لا تظلم . ولما ذكر القوم المنشئين بعدها وذكر إحساسهم البأس عند القصم أحاط العلم أنه إنما أحس البأس من يعرف البأس من الآدميين “( ) .
*- وعقد الإمام العز بن عبد السلام في كتابه الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز فصلاً سماه { باب المجاز } بلغت صفحاته { 156 } صفحة عرض فيها لكثير من ألوان المجاز وفنونه ( ) .
**- وتحدث ابن قدامة ( ت620هـ ) في كتابة روضة الناظر عن المجاز بمفهومه عند البلاغيين وأثبته في اللغة والقرآن , ورد على من أنكره , وعرف الحقيقة بأنها (( اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي )) , وقال عن المجاز : (( اللفظ المستعمل في غير موضعه الأصلي على وجه يصح )) روضة الناظر وعقد فصلاً في إثبات اشتمال القرآن على الحقيقة والمجاز فقال : (( والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز , ومن منع ذلك فقد كابر , ومن سلّمه وقال : لا أسميه مجازاً , فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه” ( ) .
*- وللشوكاني ( ت1250هـ ) كتاب إرشاد الفحول في علم الأصول تحدث فيه عن المجاز ودافع عنه وأثبت وقوعه في القرآن والسنة ولغة العرب .
**- القول الثاني : إنكار المجاز , في اللغة والقرآن ومن أدلتهم : أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز لم يقع إلا في كلام المتأخرين ، فهو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة ، ولم يتكلم في ذلك أحد من الصحابة والتابعين ، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم من أئمــة المذاهب وغيرهم ، بل ولا تكلم فيه أئمة اللغة والنحو المعتبرون . وأن علماء السلف الذين ألفوا في ضروب العلم المختلفة ، كالفقه ، والأصول، والتفسير ، والحديث ، لم يوجد فيما كتبوه هذا التقسيم .
وردّ عليه الجمهور بقولهم : إن أردتم أنهم لم يضعوا هذا الاصطلاح فمسلم وإن أردتم أنـه لا يوجد في كلامهم مجاز فغير مسلم بدليل ما ذكرناه من الأمثلة .
**- وشبهتهم في عدم وقوع المجاز في القرآن الكريم : أن المجاز عند من يقول به لا يدل على معناه إلا بمعونة القرينة وهذا – كما يقول داود – تطويل بلا فائدة ومع عدم القرينة يكون فيه إلباس .
ويجيب عليها الأصوليون بقولهم : المجاز لا بد فيه من قرينة فلا إلباس فيه إذن , وليس في المجاز تطويل بلا فائدة بل فيه فوائد من أجلها يصار إلى المجاز ويعدل عن الحقيقة .
**- والشبهة الثانية : لو سلمنا أنّ في القرآن الكريم مجازاً – والقرآن الكريم كلام الله – لقيل لله { متجوز ومستعير } يعني متكلماً بالمجاز , وهذا الوصف لا يطلق على الله باتفاق علماء الأمة لأن أسماء الله توقيفية .
أما امتناع إطلاق وصف { متجوز } على الله فليس علته نفي المجاز عن القرآن وإنما أسماء الله توقيفية لا بد فيها من الإذن الشرعي , ولا أذن هنا , فلا يقال إذاً على الله إنه { متجوز } لعدم إذن المشرع .
قال أبو المظفر السمعاني : (( أما قولهم إنه لو جاز ان يسمي الرب جل وعلا متجوزاً أو مستعيراً قلنا : عندنا لا يجوز أن يسمى الرب تعالى باسم أو يوصف بوصف إلا الذي ورد به القرآن والسنة “( ) .
*= وأما دعوى قولهم إن القرآن كله حق لقوله تعالى : { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } فيكون حقيقة لا مجاز فيه . وقولهم هذا يحتاج إلى التفريق بين مفهوم الحق الذي يراد به الصدق ومفهوم الحقيقة في الاصطلاح البلاغي الذي يدخله الصدق والكذب .
*- يقول أبو المظفر السمعاني ( ت489هـ ) : ” أما قولهم : إن كل القرآن حق فيكون كله حقيقة قلنا : ليس الحقيقة من الحق , بل الحق في الكلام أن يكون صدقاً وأن يجب العمل به . والحقيقة : أن يستعمل اللفظ فيما وضع له سواء كان صدقاً أو كذباً ألا ترى أن قول النصارى ثالث ثلاثة ليس بحق وهو حقيقة فيما أرادوه . وقوله : – صلى الله عليه وسلم – { يا أنجشة رفقك سوقاً بالقوارير} ليس بحقيقة فيما استعملت فيه وهو صدق وحق , فدّل أن أحدهما غير الآخر ” ( )
*= ودعوى أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يكون عن ضرورة , والله تعالى لا يوصف بالحاجة والضرورة فلا ينبغي أن يكون في كلامه العظيم مجاز .
*- يرد الإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ ) على هذا القول بقوله : ” وهذا غلط لأن المجاز لغة العرب وعادتها فإنها تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاوراً له ,أو كان منه بسبب وتحذف جزءاً من الكلام طلباً للاختصار إذا كان فيما أبقى دليل على ما ألقى , وتحذف المضاف وتقيم المضاف إليه وتعربه بإعرابه وغير ذلك من أنواع المجاز وإنما نزل القرآن بألفاظها ومذاهبها ولغاتها ” ( ).
*- ويقول أبو المظفر السمعاني :” ولهم إن العدول عن المجاز عجز إنما يقتضي العجز عن الحقيقة لو لم يحسن العدول إلى المجاز مع التمكن من الحقيقة ومعلوم أن العدول إلى المجاز يحسن لما فيه من زيادة الفصاحة والمبالغة في التشبيه والتوسع في الكلام والاختصار والحذف على ما هو من عادة العرب فدل أن ذلك ليس بعجز ” ( )
*= وأما الإمام ابن تيمية فله موقفان : منكر ومؤيد , أما سبب الإنكار والمنع فهو دخول المجاز قبله وفي عصره في مباحث العقيدة والتوحيد وتعلّقه بتأويل صفات الله عزّ وجل كالوجه واليد والعين والاستواء والمجيء والنزول والقرب , فحشد كل طاقاته الذهنية والعلمية والفكرية لإبطال هذا القول في ظل نشوء فرق كلامية ومعتزلة وفلاسفة وغلاة صوفية وباطنية كافرة وجهمية ورافضة ( ).
**- ولكن ما الأسس الذي اعتمد عليها ابن تيمية في إنكار المجاز في اللغة والقرآن , نذكر منها :
= الأول : أن سلف الأمة لم يقولوا به مثل الخليل سيبويه وأبي عمرو بن العلاء ومالك وأبي حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي , فهو قول حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة ( )
ويرد هذه الدعوة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أوّل الخيطين الأبيض والأسود بالنّهار والليل هذا أولاً , كما ينقض هذه الدعوى ورود لفظ في مقدمة كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي المتوفى سنة ( 170هـ ) في موضعين :
* – الأول حيث جعل عنوان المقدمة اللفظ المختلف ومجاز المعاني .
*- والثاني : وقد يداني الشيء الشيء وليس من جنسه ولا ينسب إليه ليعلم العامة قرب ما بينهما , وفي القرآن مثل ما في كلام العرب من اللفظ المختلف ومجاز المعاني( ).
**- وخلاصة القول أن أبا زيد توفي سنة عام ( 170هـ ) ومعنى هذا أن المجاز بمعناه الفني الاصطلاحي قد عرف خلال القرن الثاني بلفظه ومعناه .فقد صنع أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة (210) كتابه مجاز القرآن , كما أن داود الظاهري الذي أنكر المجاز في القرآن قد مات عام ( 270هـ ) وهذا يعني أن المجاز كان معروفاً قبل وفاته . وأن الجاحظ المتوفى سنة ( 255هـ ) المعاصر لداود كان يكثر من ذكر الاستعارة , ويصرح بلفظ المجاز في قوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } وقوله تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ( ) .
**- وفي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة قول يثبت معرفتهم للمجاز يقول : ” وللعرب المجازات في الكلام ومعناها طرق القول ومآخذه ففيها الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح … مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز ” ( )
*= الثاني : إنكاره أن يكون للغة وضع أوّل تفرع عنه المجاز باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما يقول مجوز المجاز .
**- يقول الإمام ابن تيمية :” وهذا كله إنما يصح لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولاً لمعان ثم بعد ذلك استعملت فيها فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال , وهذا يصح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية فيدعي أن قوماً من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا , وهذا بكذا , ويجعل هذا عاماً في جميع اللغات , وهذا القول لا نعرف أحداً من المسلمين قاله قبل أبي هاشم الجبائي …
والمقصود هنا أنه لا يمكن أحداً ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع . وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عدّوه بها من المعاني . فإن ادّعى مدع أنه يعلم وضعاً يتقدم ذلك فهو مبطل فإن هذا لم ينقله أحد من الناس , ولا يقال : نحن نعلم ذلك بالدليل فإنه إن لم يكن اصطلاح متقدم لم يمكن الاستعمال”( ). انظر : كتاب الإيمان من مجموع الفتاوى. فهو ينكر أن تكون اللغة وضعية ويرى أن أصلها إلهام من الله ( ) .
**- وينقضه قوله في موضع آخر من مجموع الفتاوى يقول :” وكذلك الاستثناء وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم فإنه صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه , فالاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي , واللفظ يصير بالاستعمال له معنى غير ما يقتضيه أصل الوضع .. وكذلك يكون في الأسماء المفردة تارة ويكون في تركيب الكلام تارة ويكون في الجمل المنقولة … كلفظ الدّابة والغائط والرأس ويتغير التركيب بالاستعمال عما كان يقتضيه نظائره كما في زيادة حرف النفي في الجمل السلبية , وبنقل الجملة من معناها الأصلي إلى غيره كالجمل المتمثل بها في قولهم : يداك أوكتا و فوك نفخ” ( )
*- فهو يُقرّ إقراراً قاطعاً بالوضع الأول والنقل عنه , وبالمجاز في المفردات والجمل والكلام المركب ينقل عما كان له أصل في اللغة , ويصير للمنقول معنى جديد بالاستعمال الثاني وإن لم يسم هذا مجازاً , فمثلاً لفظ الدابة فهي في أصل الوضع موضوعة لكل ما يدب , ثم خصصها العرف بغير الإنسان كذوات الأربع ودلالة الخصوص من العموم مجاز .
ولفظ الغائط فهو في أصل الوضع للمطمئن من الأرض ثم جعل مجازاً مرسلا على الفضلة التي تخرج من الإنسان والرأس في أصل الوضع موضوع للعضو المعروف من الإنسان والحيوان , ويعبر به مجازاً عن أعلى الشيء مثل رأس الجبل ورأس المنزل على سبيل الاستعارة .
ثم إن لفظ { المجاز } مجرد مصطلح , والمصطلحات غالباً ما تتأخر في الظهور عن موضوع الفن نفسه وخاصة في عصور تدوين العلوم ومن ذلك : النحو والصرف والفقه وأصول الفقه ومصطلح الحديث .
**- يقول المطعني : ” وما يوهن دعوى ابن تيمية أن قوله بالإلهام لا يؤدي إلى إنكار الوضع وأن قوله بالاستعمال لا ينافي الوضع بل إن الوضع ملازم لكل مذهب قيل به في أصل اللغات لأن المراد بالوضع هو النطق أول مرة باللفظة دالاً على معناه سواء كان مصدره الإلهام أو التوقيف “( ) . ويفهم من كلامه أن الوضع والاستعمال متلازمان
*- وذكر المطعني قولاً لابن تيمية يقر فيه بالمجاز قال فيه : ” ولم ينطق بهذا – يعني المجاز – أحد من السلف والأئمة , ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحدٍ من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد فإنه قال في الرد على الزنادقة الجهمية هذا من مجاز اللغة .
وأول من قال ذلك مطلقاً أبو عبيدة في كتابه الذي صنفه في مجاز القرآن ثم إنّ هذا كان عند الأوليين مما يجوز في اللغة ويسوغ فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء عقد لازم وجائز ,
وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من الحقيقة إلى معنى المجاز ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة “( ) .
وهذه أقوال له – رحمه الله – لم يصرح فيها باسم المجاز يقول :” لفظ الصلاة في اللغة الدعاء , وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء وهو العبادة “( ).
فهو يقرّ بالوضع اللغوي إذ يقول : ولفظ الصلاة في اللغة الدعاء ويقر بالمجاز لأن قوله : وسمّيت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء هو مجاز مرسل لأن الدعاء جزء من الصلاة .
وعند قوله تعالى : { إني كنت من الظالمين } يقول : ” هذا اعتراف بالذنب وهو تضمين طلب المغفرة ؛ فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب , وتارة يسأل بصيغة الخبر إما بوصف حاله أو بوصف حال المسؤول أو بوصف الحالين كقول نوح : { ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وألاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } فهذا ليس بصيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله في ان لم يغفر له ويرحمه خسر , ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة “( ) وخروج الخبر عن الفائدة ولازمها يعد عند البيانيين صورة من صور المجاز المرسل
*- ومن المجاز المشتهر عند الإمام ابن تيمية تسمية الضيافة نزلا , ونعني بالضيافة ما يقدم للضيف مما يشرب أو يؤكل , وفيها يقول : (( فإن النزل إنما يطلق على ما يؤكل قال تعالى : (( فنزل من حميم )) والضيافة سميت نزلا ؛ لأن العادة أن الضيف يكون راكبا فينزل في مكان يؤتى إليه بضيافة فيه , فسميت الضيافة نزلا لأجل نزوله )) هذا المجاز المشتهر الذي صار حقيقة هو في الأصل مجاز مرسل عند علماء البيان .
*- ويشنع على من يجهل الفروق بين دلالات اللغة ويجهل دلالات الحقيقة والمجاز , ورد هذا النص على من يدعي أن استواء الله على العرش يتناول شيئاً من صفات المخلوقين فقال بالحرف الواحد : ” فمن ظن أن الاستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئاً منه مع كون النص قد خصه بالله كان جاهلاً جداً بدلالات اللغات ومعرفة الحقيقة والمجاز “( ) , وكلامه هذا دليل قاطع على أخذه بالمجاز واعتماده .
**- وهناك من العلماء من فسّر الاستواء على العرش بالعمد والقصد إليه لخلقه وهذا باطل , يقول ابن تيمية في كتابه الأسماء والصفات : ” فإذا كان العرش مخلوقاً قبل خلق السموات فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له ؟ لو كان يعرف في اللغة أن استوى على كذا بمعنى عمد إلى فعله وهذا لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً , لا في نظم ولا في نثر ” ( ), فالإمام رضي الله عنه قد ذكر الحقيقة والمجاز في حر كلامه ولم يشم من هنا من كلامه رائحة إنكار المجاز .
*- ويقول أيضاً : ” فمن ظن ان هذا الاستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئاً منه مع كون النص قد خصه بالله كان جاهلاً جداً بدلالات اللغات ومعرفة الحقيقة والمجاز “( ) . وهذا دليل قاطع على أخذه بالمجاز واعتماده . وبعد ” فلم يبق إذن إلا التسليم بأن الإمام ابن تيمية له مذهبان في المجاز هما :
1- مذهب جدلي نظري أنكر فيه المجاز في اللغة وفي القرآن وقد دعاه إلى ذلك فوضى التأويل في عصره وقبل عصره عملاً بالأصل المعروف لدى علماء أصول الفقه وهو سد الذرائع . ومذهب عملي سلوكي طبقة على آيات من الذكر الحكيم , ولا عجب ولا تناقض في موقفه من المجاز عند التحقيق ..” ( ) .
**- أما ابن قيم الجوّزية تلميذ الإمام ابن تيمية فهو كشيخه له قولان :
*- الأول : ففي كتابه الصواعق المرسلة أنكر المجاز في اللغة والقرآن جملة وتفصيلاً , وسماه الطاغوت الثالث وحشد أكثر من خمسين وجهاً لإنكار المجاز , وقال : يجب هدمه . وبه اشتهر .
*- والقول الثاني : غير مشهور وهو إقراره بالمجاز عن رضا وقناعة , وكتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان إن صحّت نسبته إليه كان موضوعاً في مسائل البيان والبديع , ولعل عبارة علوم القرآن جاءت لحرصه الشديد على تغذية كتابه بالشواهد القرآنية , ولذلك نجده يقول : { وهو في القرآن كثير }( )
*- وتحدث فيه عن المجاز من خمسة وجوه : { المعنى الذي استعملت المجاز من أجله – في حده – في اشتقاقه – في علة النقل – في أقسامه } معترفاً في كل ما ذكر بالوضع والنقل , وفي القسم العشرين تناول الاستعارة وصنوفها من القرآن , وفي الباب الحادي والعشرين تحدث عن التشبيه( ) .
والتأويلات المجازية عند ابن القيم جاءت على ثلاثة أنواع : { تأويلات مجازية من قبيل المجاز العقلي , وتأويلات مجازية من قبيل المجاز اللغوي المرسل , وتأويلات مجازية من قبيل المجاز اللغوي الاستعاري }
فمن النوع الأول قال في توجيه قوله تعالى : { خلق من ماء دافق } قال : ” والدافق قيل إنه فاعل بمعنى مفعول , كقولهم : سرّ كاتم , وعيشة راضية , وقيل : على النسب أي ذي دفق” وهذا عند البلاغيين مجاز عقلي علاقته المفعولية .
ومع التسليم بالأصل المقيس عليه { سر كاتم } وهو عند البلاغيين مجاز عقلي علاقته المفعولية نازع أن تكون الآية { ماء دافق } من قبيل : سر كاتم واختار أن يكون { دافق } اسم فاعل على بابه أي دافق هو لا مدفوق . وحمله على قولهم : نهر جار ورجل ميت بناء على أن الفاعل هو من فعل الفعل أو قام به ,
وعنده أن النهر والميت وقع عليها الفعل : الجري والموت ولم يفعلاه في الواقع بيد أن تسويته بين جريان النهر وموت الميت غير سديد لأن الماء في مجرى الحس والمشاهدة فاعل للجريان بخلاف الميت فإن الفعل واقع عليه .
وشاهدنا في الموضوع – كما يقول المطعني – هو تسليمه بأصل التأويل المجازي العقلي في سرّ كاتم وعدم اعتراضه عليه كل ما في الأمر انه لم يسلم بحمل { ماء دافق } عليه .( )
**- ومن أوضح تأويلاته المفضية – قطعًا – إلى المجاز العقلي حديثه عن فاعل تزيين الأعمال السيئة في نفوس فاعليها ففي القرآن الكريم جاء إسناد هذا التزيين إلى الله في مواضع ثم إلى الشيطان في مواضع أخرى كما أسندت إلى فاعليها من العباد أحياناً أو يبنى الفعل للمفعول ويطوى ذكر فاعله , فمن الإسناد إلى الله – سبحانه – قوله تعالى : ” كذلك زيّنا لكل أمة عملهم” [الأنعام : 108].
ومن الإسناد إلى الشيطان قوله تعالى : ” وزين لهم الشيطان أعمالهم ” [العنكبوت : 38].
ومن الإسناد إلى العبد قوله تعالى : ” بل سولت لكم انفسكم أمراً ” [يوسف : 18]. ومن الإسناد إلى المجهول قوله تعالى : ” أفمن زين له سوء عمله “[ فاطر : 8].
وقد عرض ابن القيم لتوجيه اختلاف الإسناد في هذه المواضع فقال : ” فأضاف التزين إليه – سبحانه – خلقاً ومشيئة ونسبه إلى سببه – يعني الشيطان – ومن أجراه على يديه تارة” ( )
ولا ريب أن إسناد التزيين إلى الله حقيقة إذ هو خالقه ومشيؤه كما يقول ابن القيم , أما الإسناد إلى الشيطان فلأنه سبب داع ومؤثر , أما العبد فلأنه مباشر للفعل , والإسناد إلى الشيطان والعبد إسناد مجازي عقلي حيث جُعل غير الفاعل فاعلاً وهو هو المجاز العقلي عند علماء البيان , فلم يترك ابن القيم إلا تسمية هذا التأويل مجازاً .
وعند حديثه عن قوله تعالى :” فهو في عيشة راضية ” نقل ابن القيم في إسناد الرضا إلى ضمير العيشة تأويلاً مجازياً ثم رجح ان تكون { عيشة } فاعلاً للرضا فعلاً فقال : وأما العيشة الراضية فالوصف بها أحسن من الوصف بالمرضية لأنها اللائقة بهم , فشُبه ذلك برضاها بهم كما رضوا بها , كأنها رضيت بهم ورضوا بها وهذا أبلغ من مجرد كونها مرضية فقط فتأمله ” ( )
وهذا التأويل الذي ارتضاه ابن القيم يُخرج الآية من دائرة المجاز العقلي ويدخلها في دائرة الاستعارة بالكناية فالمجاز لاحق به فيما فرّ منه وفيما فرّ إليه . وإجراء الاستعارة بالكناية في صور المجاز العقلي سائغ جداً كما جزم بذلك الإمام السكاكي .
وعند قوله تعالى : ” الله يتوفى الأنفس حين موتها “[ الزمر : 42], يسند الوفاة إلى الله لأنه الخالق المشيء , ويسند الوفاة في قوله تعالى :” قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ” [السجدة : 11] إلى ملك الموت لأنه الذي ينزع الروح من الجسد وهذا كلام صواب , لكن ابن القيم يفرّ من التسمية وعلماء البلاغة يسمّونه مجازاً عقليا وفراره أو سكوته عنه لا ينفي حقيقة المسمى . ومن تأويلاته المفضية إلى المجاز اللغوي المرسل خروج الاستفهام إلى الإنكار فمن ذلك قوله عن قوله تعالى : (( فما لهم لا يؤمنون )) قال : ” إنكار على من لم يؤمن بعد ظهور الآيات المستلزمة لمدلولها أتم استلزام ” ( )
وعن قوله تعالى : ” أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ” قال : فأنكر – سبحانه – عليه حسبانه أن الله لا يجمع عظامه . وقال عن قوله تعالى : (( وقيل من راق )) (( إن مثل هذا إنما يراد به النفي والاستبعاد , أي لا أحد يرقى من هذه العلّة بعد ما وصل صاحبها إلى هذه الحال “( ).
خروج الاستفهام إلى النفي والإنكار معدود عند علماء البيان من صور المجاز المرسل الذي علاقته الإطلاق والتقييد , أي أطلق الاستفهام من دلالته على طلب الفهم ثم قيد مرة أخرى باستعماله في الإنكار أو النفي .
ومن ذلك مجيء الخبر بمعنى الأمر كما في قوله تعالى : “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” أي تربصن , وقوله تعالى : “والوالدات يرضعن ” أي : أرضعن لأن المقصود بالخبر هنا الأمر ( ) .
وتبادل الصيغ في الخبر والإنشاء وإحلال بعضها محلّ بعض هو عند البلاغيين من صور المجاز المرسل الذي علاقته الإطلاق والتقييد .
*- أما تأويلاته المفضية إلى الاستعارة فقال عن قوله تعالى : ” فلا اقتحم العقبة ” : وقال مقاتل : هذا مثل ضربه الله يريد : أن المعتق رقبة والمطعم اليتيم والمسكين يقاحم نفسه وشيطانه أي يغالبهما مثل أن يتكلف صعود العقبة فشُبه المعتق رقبته في شدته عليه بالمتكلف صعود العقبة ” ( )
هذا التأويل يفضي إلى أن هذه الآية مجاز لغوي من قبيل الاستعارة التمثيلية شبه فيها الهيئة الحاصلة من فعل التكاليف الشاقة على النفس ببذل الطعام لمستحقيه وتحرير الرقاب من الرّق بالهيئة الحاصلة من المشاق التي يتجشمها رجل يحاول صعود جبلاً وهذا هو المجاز المركب , وقد صرح ابن القيم بالمشبه والمشبه به .
*- ويبين ابن القيم شروط تحقق المجاز فيقول : ” من ادعى صرف لفظ عن ظاهره إلى مجازه لم يتم له ذلك إلا بعد أربعة مقامات : أحدها : بيان امتناع الإرادة . الثاني : بيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى الذي عينه – يعني المعنى المجازي – وإلا كان مفترياً على اللغة . الثالث : بيان تعيين ذلك المجمل إن كان له عدة مجازات . الرابع : الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة – وهو تكرار للأول”( )
تأمل المقام الثالث ترى أنه يقرّ بأن اللفظ الواحد قد تكون له عدة مجازات ويوجب على من يصرف لفظ إلى واحد منها أن يقيم الدليل على أن المعنى المجازي الذي إليه صرف اللفظ أولى معاني اللفظ المجازية بالاعتبار – فابن القيم هنا – ليس مقرّاً بالمجاز فحسب ولكنه ممّن يخوضون في بحاره ويحومون حول دقائقه وقوانينه ويشرعون له .
**- ويرجح الشيح المطعني : أنهما لم ينكرا المجاز في جميع مؤلفاتهما بل أنكره كلُّ منهما مرة واحدة في مؤلف واحد ابن تيمية في كتابة الإيمان وابن القيم في كتابه الصواعق وفيما عداهما لم يتعرضا لإنكاره .
وأن كلاً منهما أقرّ بالتأويل المجازي الواضح , إما نقلاً عن السلف وغيرهم وإما في حرّ كلامهما كما أقرّا بالمجاز فيما حكياه عن غيرهما وفي حرّ كلامهما وأعملاه حتى في النصوص القرآنية .
أن أدلة الإنكار التي استند إليها في مرحلة إنكارهما للمجاز مردود عليها كلها حتى الوجوه الخمسين التي ذكرها ابن القيم في كتابه الصواعق .
**- أما الشنقيطي فهو من أشد أهل العصر إنكاراً للمجاز في اللغة والقرآن , وقد سار على نهج الإمامين ابن تيمية وابن القيم فكان له مذهبان : جدلي نظري أنكر فيه المجاز , وسلوكي عملي مارس فيه شيئاً من المجاز ,
ومن يطّلع على كتابه{ أضواء البيان الأجزاء السبعة الأولى التي كتبها بنفسه } يجده مليئاً بالكثير من التأويلات المجازية الواردة في حرّ كلامه من ذلك قوله : ” أسند هنا – يقصد آية النساء : 97 – جلّ وعلا التوفي للملائكة في قوله تعالى : { توفاهم الملائكة } وأسنده في السجدة لملك الموت في قوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت } , وأسنده في الزمر إلى نفسه جلّ وعلا في قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وقد بينا أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة فإسناده التوفي لنفسه لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى , وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح وأسنده إلى الملائكة لأن لملك الموت أعواناً من الملائكة ” ( ).
وقوله هذا هو قول البيانيين فيقولون هذا مجاز عقلي , لكنه يسكت عن التسمية . وعند تفسير قوله تعالى : { وجعلنا آية النهار مبصرة } قال : “هذا التفسير من قبل قولهم : نهاره صائم وليله قائم ” ومنه :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى *** ونمت وما ليل المطي بنائم ” ( )
ولعمري هذا المجاز العقلي بعينه .
*- ويقول في تفسير قوله تعالى : { حجاباً مستوراً } قال : ” قال بعض العلماء هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل أي حجاباً ساتراً وقد يقع عكسه كقوله تعالى :{ من ماء دافق }أي : مدفوق ,و{ عيشة راضية } أي : مرضية فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب العربية , والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق مجازا عقلياً “( ) . فسمى المجاز العقلي أسلوباً من أساليب اللغة العربية والاختلاف في التسمية مع الاعتراف بوجود المسمى لا طائل تحته .
*- وفي قوله تعالى : ” اهتزت وربت” يقول : أي تحركت بالنبات , ولما كان النبات ثابتاً فيها ومتصلاً بها كان اهتزازه كأنه اهتزازها فاطلق عليها بهذا الاعتبار أنها اهتزت بالنبات وهذا اسلوب عربي معروف”( ).
هذا التأويل الذي يسميه أسلوباً معروفاً من أساليب اللغة العربية يسميه علماء البيان مجازاً عقلياً علاقته المكانية لأن الرض مكان الاهتزاز ومحله فأسند إليها وكأنها هي فاعلة الاهتزاز.
*- ويقول عن قوله تعالى : ” وآتوا اليتامى أموالهم ” … وتسميتهم يتامى في الموضعين إنما هي باعتبار يتمهم الذي كانوا متصفين به قبل البلوغ إذ لا يتم ذلك إلا بعد البلوغ إجماعاً “( ) . فتسميته من كان يتيماً قبل البلوغ يتيماً بعد البلوغ هي مجاز مرسل عند علماء البيان والأصوليين علاقته اعتبار ما كان , لكن الشيخ لا يسمي .
*- ويقول عن قوله تعالى : ” وتأتون في ناديكم المنكر ” : النادي والندى يطلقان على المجلس وعلى القوم الجالسين فيه … ومن ذلك قوله تعالى : “وأحسن نديا ” , ومن إطلاقه على القوم قوله تعالى : ” فليدع ناديه ” . وقوله هذا تمحك واضح , فإطلاق النادي والندي على المكان حقيقة هذا أمر معروف , وإطلاقه على من هو حال فيه مجاز مرسل بعلاقة المجاورة أو المكانية فلماذا لا يسم الأمور بمسمياتها .
ويظهر تأثره بتأويل علماء البيان إذ لم يستطع الفرار منه أو يأتي ببديل مغاير لما قالوه في الآية , فيقول في تفسير قوله تعالى : ” فأذاقها الله لباس الجوع والخوف “” وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف ؛لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم وتحيط بهم كاللباس ومن حيث وجدانه ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف أوقع عليه الإذاقة “( ) . وهذا كلام الزمخشري والعلوي اللهم إنه حذف منه ما ينفع ذكره ويضر حذفه , ثم ادعى أنه لم يذهب مذهبهم ( ) .
ولا نزاع أن في الآية استعارة شبهت فيها الآثار المترتبة على الجوع والخوف باللباس بجامع الإحاطة وشدة الإحساس في كل , وهي استعارة تصريحية أصلية لوقوعها في اسم الجنس . من قبيل استعارة المحسوس للمعقول كما يرى بعض البلاغيين .
أو استعارة المحسوس للمحسوس على رأي بعض منهم , ويجوز حملها على الاستعارة التمثيلية التي شبهت فيها هيئة بهيئة وصورة بصورة .
وقال عند قوله تعالى :” أتى أمر الله فلا تستعجلوه ” , وعبر بصيغة الماضي تنزيلاً لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع ” . وهذه العبارة تلزم الشيخ الشنقيطي بمتابعة علماء البيان في جعلها استعارة في زمن الفعل وهي قسيمة الاستعارة في معنى الفعل .
ولم يكتف بهذا بل سرد بعض الآيات كقوله تعالى : ” ونفخ في الصور” و ” ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ” و مثل ” وأشرقت الأرض بنور ربها ..” , ثم قال : فكلّ هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال نزل فيها تحقق وقوعها منزلة الوقوع ( ) .وهذا القول الذي ذكره هو قول المجازيين .
**- وبعد : هذه آيات كريمة تدعوك للتأمل والتذوق , منها قوله تعالى : (( اهدنا الصراط المستقيم )) وقوله : (( بل مكر الليل والنهار )) (( حجاباً مستوراً )) وقوله : (( واشتعل الرأس شيباً )) وقوله (( ولما سكت عن موسى الغضب )) وقوله : (( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار )) وقوله : (( يجعلون أصابعهم في آذانهم )) (( واركعوا مع الراكعين )) (( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس )) (( واعتصموا بحبل الله )) (( والقمرَ قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم )) وقوله : (( ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )) (( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر )) (( أومن كان ميتاً فأحييناه )) (( فبشرهم بعذاب أليم )) (( ولأصلبنكم في جذوع النخل )) (( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم )) (( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف )) (( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا )) (( إنه من يأت ربه مجرماً )) (( ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً )) وغيرها كثير .
وصفوة القول أن المجاز واقع في اللغة والقرآن اللهم إلا في ألفاظ معدودة من القرآن وهي التي فيها اسم أو صفة من أسماء الله تعالى وصفاته القدسية , تمر على ظاهرها ، وتجرى على حقيقتها ، نوردها كما جاءت ، ونثبتها كمـا وردت , ولا نقع فيه تأويلا أو تعطيلا بدعوى المجاز . ونؤكد إن ظاهرة إنكار المجاز في اللغة والقرآن الكريم إنما هي مجرد شبهة واهية كتبت لها الشهرة ولكن لم يكتب لها النجاح …
0