المقالات

على قيد اللحظة (2)

الحياة معركة لا تنتهي معي، وفي مرحلة أخرى من صفحات المقاومة والجهاد النفسي، اخترت للمرة الألف ألا أبقى أسيرة للكرسي المتحرك والسرير الأبيض.

لم تكن هناك طرق واضحة وميسرة أسلكها نحو وجهتي المرجوة. كنت أسير رغم انعدام حركتي في نفق طويل ومظلم، أرى في نهايته البعيدة ضوءًا مشعًا ينتظر قدومي، موقنة -عنادًا أم حماقة- بأنني سأصل، وها قد وصلت!

في البداية، كان البحث عن المكان المناسب للعلاج بين الخيارات الكثيرة في العالم وداخل السعودية من أصعب وأقسى الأمور التي تواجه المرضى، خاصةً مرضى التأهيل. وضعت نفسي بين خيارين، وتيسرت الأسباب وتهيأت الظروف بعد بحث دقيق وطويل، فوقع اختياري على مستشفى للتأهيل في الأحساء.

وكما يُقال “إن الذئب لا يهرول عبثًا” – ليس لأنني أعتقد أن الذئب دائمًا على صواب، بل لأني لا أبذل جهدًا نحو شيء فارغ وبلا قيمة، خاصة باختياري هذا المستشفى الرائع، الذي يليق بوعي المرضى نحو متطلباتهم وإدراكهم لاحتياجاتهم.

خرجت من مدينتي إلى الشرقية بحماس وفرحة الأطفال، بيقين المؤمنين وطمأنينة المصلين ودعوات المحبين. وصلت وكان المكان كما في مخيلتي، بل وأكثر جمالًا وحفاوةً ورعاية في كل شيء. في هذا المستشفى، يعرف الإنسان معنى الإنسانية وكيف تكون بأكمل وجه. عالم آخر من الرقي والاستشفاء، بدايةً من الإدارة، التمريض، وطاقم التأهيل إلى المسؤولين عن النظافة والتعقيم. أخلاق مذهلة، جودة عالية من الاهتمام بالمرضى، ابتسامات رائعة وتعاون مستمر، وكأنك بداخل عائلة مثالية عالية في التماسك والحب.

أعيش لحظات ودودة وأملًا بلا حدود؛ كل صباح يدفعني لمقاومة الألم الجسدي الذي يثقل كاهلي ويمزق عضلاتي، فالجهد المطلوب مني لبناء العضلات من جديد وتقويتها لا يوازي ما أملك من طاقة بعد فقدانها.
أنا أضطر كل يوم إلى حمل وزن يشبه ثقل الجبال، وأحرك ما لا يتحرك بقوة ضعيفة جدًا. هذا إنجاز جبار قد لا يراه الآخرون، ولا يشعرون به، لكنه الشيء الوحيد الذي أستطيع القيام به، وأنا مرغمة، منتظرةً نتائج هذا التعب والجهد.

وفي وسط كل هذا، وبعد أن تشعر من فرط الكمال والبهاء أنك في السماء كالطير أو في الجنة مستقر، وعندما لا تستطيع استيعاب أن أحدًا قد يؤذيك ولو بنظرة، تأتي أخصائية العلاج الوظيفي بوجه بارد بلا تعابير ولا خطوط إنسانية، تسألني: “لماذا أنت هنا؟” بعد معرفتها أن الإصابة قد مر عليها خمس سنوات، وكأنها تتساءل ما جدوى استمراري في العلاج والتأهيل، وأنه يجدر بي الاستسلام للواقع، وكأن المكان ليس مكاني.

مر الكلام كمرور السلام داخلي تجاهلًا وترفعًا. توالت الجلسات بنفس النمط من التعالي وعدم الرحمة، وكأنها جاءت لتصب ما يزعجها في نفسي. ثلاثة أيام وأنا مختنقة بذاتي، وكأنها غذتني بالسم. لم أكن أعرف أثر النظرة ولا الكلمة التي تفسد وتهدم البدن إلا بعد أن تمكنت مني. كنت أواجه مشكلتي بخفة الريشة لكنها جعلتها مرضًا يتسرب من كل مسامات جسدي وأختنق به. أيقظت شعور اليأس، وانتابني الخوف، وتملكني شعور أنه يجب علي الهروب وألا أبقى طويلًا.

بقيت مجبرةً على السكوت لأنني لا أغير حسن ما فيّ بسوء ما فيهم مباشرة، ولأنني لم أعتد هذا التعامل في مكان مذهل كهذا. شرقت بالدموع، وبكيت بكاءً غير معهود. اجتمع الطاقم الطبي والممرضات حولي، ممرضة عند رأسي تمسح دموعي وتربت على كتفي، والطبيب بقي واقفًا، مصرًا على معرفة ما يزعجني،‏وكأنه قد مس إنسانيتهم و زعزع وقوفهم.

لن أنسى الأيدي التي مُدت لي، ولن أنسى ما قيل لي حينها: “نحن نحترق لتبقين بسلام، لا تبقي صامتة وتبكين، سنفعل المستحيل لتكوني سعيدة وراضية عنا.” وتم اتخاذ الإجراء الذي يرضيني.

أيقنت حينها أن كل ألم جسدي عانيته خلال الأيام الثلاثة وانخفاض الضغط المتكرر كان بسبب تجاهل مشاعر عدم الرضا والزعل.

لم أكن حديثة علم بهذه الأمور كلها، لكن الإنسان لا بد أن يسقط يومًا في هشاشة نفسه خلال فترات تحدياته مع ذاته. هو لا يحتاج إلا للدعم والكلمة الطيبة. سأنسى كل أزمة شعورية، لكني لن أنسى حقيقتها.

رغم فشل العلم ومحدودية نجاحه في إصابات الحبل الشوكي، لن أتوقف عن المحاولات والعلاج والبحث، لأنني أقف تحت رحمة رب الأطباء ورب الأمراض الذي لا يعجزه شيء في السماوات والأرض. هذا الإيمان هو اليد التي تنتشلني برحمته، وما أستطيع كتابته عن الله وعن لطفه في الواقع؟ هذا الامتنان لا أستطيع الكتابة عنه، مكانه في قلبي فقط. أجد سلواي بين دعوات الناس ومصافحة الأطفال وابتسامة الغرباء.

أخيرًا، قد أكون ضعفت قليلًا، لكنني لم أحزن ولم أستسلم. استيقظت بقوة أكبر وحب للحياة أكثر، مارست التمارين المطلوبة مني، أكلت، واستمتعت بيومي كثيرًا.

رسالتي للجميع
واجهوا الحياة الصعبة بأنياب مكشرة، وتذكروا جيدًا: “الحزن لن يذهب ما دمتم تحسنون ضيافته”.

• طالما هناك حياة، لا يوجد استسلام أو توقف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى