عندما نتعرض لطوفان الإعلام الرقمي ووسائله المفتوحة، مستغنين عن جُل أوقاتنا وأغلى لحظاتنا، فإننا نودع الجلسات العائلية والسمرات المعتادة مع الأهل والأصدقاء. وهنا ألقت منصة نتفليكس بظلالها في كل بيت، مهيمنة على ذائقة المشاهد، مما يجعلنا نستحضر نظرية الغرس الثقافي في استكشاف انعكاسات المنتج الإعلامي وقيمته من خلال هذه المنصة. ومن الواجب علينا تجاهها أن ندرك قيمنا وأفكارنا وعمق ثقافتنا التي نحافظ عليها في خضم تعدد مثل هذه الوسائل الحديثة والمتطورة في تقديم الرسالة الإعلامية للمتلقي.
إن محتوى أعمال نتفليكس الدرامية يتفق مع الفرضية الرئيسية لنظرية الغرس الثقافي، حيث يتم شحن فكر المشاهد ودفعه لمتابعة مستمرة تصل إلى حد الإدمان، باعتبار منصة نتفليكس مصدرًا رئيسيًا له، رغم تأثيرها السلبي على القيم الاجتماعية. بل إن هذه القيم الفنية لمنتجات المنصة تتجاوز حدود القيم الاجتماعية لتصل إلى هدم تركيبة المجتمع وتغيير مفهومنا عن الزمان والمكان. أصبحت الشركة الأكبر في المجال الدرامي مع بداية الألفية الحالية، ولم تعد نتفليكس مجرد شركة لبث الأفلام والمسلسلات، بل يتزايد إنتاجها من الأفلام والمسلسلات لتنافس شركات الإنتاج الأمريكية الكبرى مثل ديزني ووارنر بروس، حيث تمتلك سلاحًا لا تملكه الشركات الأخرى، وهو خوارزمية متطورة تم تغذيتها لأكثر من 10 سنوات بالسلوك الاستهلاكي وأذواق ملايين المشاهدين حول العالم.
تعود فكرة الهيمنة الثقافية، كما يراها الفلاسفة في عشرينات القرن الماضي، إلى أن السلطة تأتي من الإقناع، وأن الأفكار هي التي تتحكم في الشعوب وليس العكس. وتقع كل القيم المجتمعية والتقاليد والعادات المتعارف عليها ضمن هذا الإطار. فيما يرى أنصار نظرية الغرس الثقافي أنه في ظل وفرة المنتجات الثقافية والإعلامية وحرية اختيار المشاهد لما يتلقى، أصبح من الصعب أن يغير أي عمل إعلامي من تقاليد أو عادات الفرد أو المجتمع.
فقد أصبح المشاهد يستخدم المواد الإعلامية ويختارها لإشباع احتياجاته الفردية، بعدما كان المجتمع يعتمد على مصدر واحد للمعلومات لا بديل له. فالآن، قد يشاهد بعضهم برنامجًا كوميديًا بعد العمل لتخفيف أعباء يومه، كما قد يختار فيلمًا يتناسب مع أفكاره ويتجنب آخر قد لا يراه ملائمًا.
ومع ذلك، يبقى لمنصة نتفليكس كإحدى الوسائط الرقمية تأثيرها الكبير على البناء القيمي المجتمعي، من خلال محاكاة الأفلام الأمريكية وغيرها، التي تشجع على عدم التقيد بالبناء الأسري والانتماء للبيت والعائلة، وتحمل في مضامينها أبعادًا ثقافية واجتماعية مختلفة. وتكمن خطورة هذه المشاهدة في تأثيرها السلبي على عادات وتقاليد المجتمع وترابطه وقيمه الأسرية، بالبعد عن تعاليم الدين الإسلامي التي تحصن المجتمع من مثل هذه الأفكار الهدامة.
فقد بينت العديد من الدراسات التي أجريت حول المضامين الدرامية المعروضة على منصة نتفليكس أن أبرز الجوانب السلبية لهذا المحتوى تتمثل في التمرد على الحياة الأسرية، وتشجيع المثلية، والإباحية الجنسية، والخيانة الزوجية والترويج لها. تتضح ملامح الخطورة في هذه المضامين عبر منصات المشاهدة الرقمية، وعلى الأخص منصة نتفليكس، مما يشكل تحديات تواجه الأسرة والمجتمع في سبيل تنشئة الأبناء، ويحول دون اكتساب ثقافتهم وقيمهم الأصيلة، ويسهم في تهديم القيم الأسرية.
وأخيرًا، نحتاج في ظل هذه العولمة الرقمية إلى تطبيق مفهوم التربية الإعلامية بمختلف مضامينها، وما تحمله من حصانة لأفراد المجتمع، في الحفاظ على قيمه وتنمية سلوكياته الإيجابية التي رسختها الأسرة والبيت المتكامل في تركيبته الاجتماعية.