ظلت الصين خلال آلاف السنين تشعر بالاكتفاء والانغلاق فهي أمة عدد سكانها أكثر من عدد سكان قارتين بل ربما يعادلون سكان ثلاث قارات كما أنها ذات مساحة شاسعة وتتضمن تنوعا بيئيا منتجًا يحقق الاكتفاء وفيها أعظم الأنهار وذات حضارة عريقة وبذلك يتوفر لدى الصين مقومات الشعور بالاكتفاء كما أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم الأكثر تحَضُّرًا في العالم لذلك لم تكن الصين أمة عدوانية أو تَوَسُّعية إنها مكتفية اقتصاديا مع وفرة سكانية وإحساس عميق بالتفوق الثقافي والحضاري …..
إن شعور الصين بالاكتفاء نتج عنه أنها لم تكن تتطلع إلى الغزو واكتساح الأضعف فخلال تاريخها لم تكن أمة تَوَسُّعية وإنما أقامت سورًا عظيما لتحمي نفسها من هجوم القبائل المتوحشة ولكن هذا السور العظيم لم يحقق لها الحماية فاحتلها المغول وحكموها فترة ليست قصيرة …..
وحين تفجرت الطاقة الأوروبية حاولت الصين أن تغلق حدودها لكن الغرب العدواني المفترس اقتحم حدودها عنوةً بل وحاول إغراقها بالأفيون بهدف تعطيل الفاعلية ودفعها إلى الهوان والاستسلام لكن الصين بقيت عصية على التطويع الثقافي …..
إن شعور الصين بالاكتفاء بقدر ما جعلها أمة مسالمة وغير باحثة عن التوسع فإن الشعور بالتفوق الثقافي والحضاري قد جعل العقل الصيني هو الأشد تَمَنُّعًا عن قبول التحديث الذي جلبته الحضارة الغربية …..
وفي مطلع القرن العشرين قاد صن يات صن حركة التحديث حيث تلقى ثقافته في الغرب ثم ظهر ماو تسي تونغ وحاول سلخ الصين عن تراثها الثقافي وأشعل الثورة الثقافية الفظيعة وبوفاة ماو صمَّم الزعيم المنقذ كسياو بنغ على إخراج الصين من أوحال وفظاعات الثورة الثقافية العمياء فقاد الصين نحو الانفتاح والتحرر من أوهام التفكير العقائدي المنغلق وركز على الاقتصاد فباتت الصين نموذجًا عجيبا في سرعة النمو فهي من الناحية السياسية تعلن أنها دولة ماركسية لكنها من الناحية الاقتصادية تستخدم النظام الرأسمالي بكل فاعلية واقتدار ……
إن طفرة الصين تمثل أروع نموذج للنمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي فهي الأمل بأن تكون الند المسالم الأقوى أمام الغرب العدواني الفظيع …..
في مقالة سابقة عرضتُ ما يدعيه المبدع الصيني يو هوا حيث يقلب الصورة ويُرَكِّز على النقائص ويحاول أن يطمس هذا السطوع الباهر وهو السطوع الذي تتحدث عنه مئات الكتب والدراسات …..
ما أريد تكرار تأكيده هو أن تاريخ الصين يُبرِز حقيقة كونها أمة مكتفية لا تتخذ العدوان والتوسع وسيلة إلى الكسب وهي في نهضتها الحديثة المذهلة تمارس الموقف نفسه فهي غير عدوانية بل أمة مسالمة تُرَكِّز على التنمية الاقتصادية وتهتم بالانتشار الاقتصادي وتتخذ من التجارة والعلاقات الاقتصادية أسلوبا في التعامل فنحن أمام أمة يؤكد سجلها التاريخي أنها أمة غير عدوانية وأن انتشارها الحالي هو انتشار اقتصادي تجاري.
0