كثير من المفكرين والمؤلفين المبدعين استطاعوا الوصول إلى القراء، ولكن القليل منهم ترك أثرًا عميقًا في حياتنا، ذلك الأثر الذي يجعلنا نشعر وكأننا نعرفهم عن قرب، كأننا عشنا معهم، وجمعتنا الأماكن والأزمنة. هؤلاء الكُتاب كانوا أكثر من يعبر عنّا، عن أحلامنا وآلامنا، وكأنهم شاركونا نكباتنا قبل أفراحنا، وبقوا صادقين معنا في كل ما خطّوه.
ومع ذلك، قد لا نكون قابلناهم قط في حياتنا؛ معرفتنا بهم قد تقتصر على مشاهدتهم عبر الشاشات، أو عبر بعض الصور الإعلامية، والأهم من ذلك، من خلال كلماتهم في كتبهم ومؤلفاتهم.
غازي القصيبي: الحضور رغم الغياب
غازي القصيبي، السياسي والأديب الذي ترك بصمته الفريدة، من منا لم يقرأ له أو يستمع إلى لقاءاته أو قصائده المغناة؟
تعرفت على غازي القصيبي في مراهقتي، وكنت حريصة على اقتناء كتبه ومتابعة لقاءاته. ومنذ ذلك الحين، ارتبطت بفكره، وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وُجهت لفكره في تلك الحقبة، لم أتخل عن إعجابي به. كانت كتبه خير معين لي، ترافقني في جميع مراحل حياتي.. بداية العمل في الجامعة، والابتعاث، ثم دخولي الوسط الدبلوماسي، والعمل الإداري، وحتى في علاقاتي الإنسانية.
كان غازي دائمًا معي؛ جليسي وصديقي الذي أتعلم منه، يوجهني ويعلمني الكثير. كنت أظن أن إعجابي الشديد به جعلني أتوهم وجود أوجه شبه بيننا.
لحظة اليقين
كل هذا تغير في يوم، حين قررت تطوير مهاراتي القيادية. وكعادتي، استعنت بدورات مؤسسة مسك الخيرية. قبل البدء في الدورات، كان هناك اختبار بعنوان: “أسلوبك القيادي يشبه أيًا من القادة؟” أجبت على الأسئلة، وعندما ظهرت النتيجة، فوجئت بأنها تشير إلى أن أسلوبي القيادي يشبه أسلوب الدكتور غازي القصيبي، مع شرح موجز لهذا الأسلوب.
حينها، أدركت أن الشبه الذي اعتقدته وهمًا كان حقيقة. تأكدت أنه من الممكن أن تعيش مع من لم تلتقِ بهم أبدًا، أن تتعلم منهم، وتكتسب صفاتهم، وأن يوجهك فكرهم ونصائحهم حتى دون أن تدرك ذلك.
معلم لم أقابله قط
لم أعش يومًا مع غازي القصيبي، لكن قصائده كانت رفيقة مسمعي طوال الوقت. كنت أستقي من فكره وخلاصة تجاربه عبر كتاباته، التي أعدت قراءتها مرارًا وتكرارًا. كنت أنتقي منها ما يتوافق مع همومي وطموحاتي في كل مرحلة من حياتي.
شكراً لروح غازي القصيبي، وشكراً لكل من ترك أثرًا فينا، يعلّمنا ويوجهنا ويحتضننا بفكره وإنسانيته، حيًا كان أو ميتًا.
اقتباس:
“الحياة لا تهم. الحياة ظل زائل. ما يهم هو أن يبقى المرء في ذاكرة التاريخ ما بقي التاريخ.”
— غازي القصيبي، رواية سلمى