**- اسمه زياد بن معاوية الذبياني الغطفاني , ويكنى أبا أمامة وأبا ثمامة , وهو أحد شعراء الجاهلية المشهورين , ومن أعيان فحولهم المذكورين , عدّه ابن سلام في الطبقة الأولى بعد امرئ القيس ومعهما زهير والأعشى . توفي سنة 604 م .
**- والنابغة لقب غلب على الشاعر ؛ اختلف النقاد في تعليله وتفسيره , قيل : إنه لقب بالنابغة لقوله :
وحلّت في بني القين بن جسر *** فقد نبغت لهم منا شؤون
وقيل : لنبوغه بالشعر قاله بعدما احتنك وهلك قبل أن يهتر ويذهب عقله . وقيل : اللقب مجازي على حد قول العرب : نبغت الحمامة , إذا أرسلت صوتها في الغناء , والشاعر نابغة إذا غزرت مادة شعره وكثرت , فتفوق فيه على أقرانه , وهو ما نميل إليه لوجود من تلقب بنفس اللقب .
**- ومن العوامل المؤثرة في شاعريته :
منزلته العالية , ومكانته الرفيعة عند قومه , ويتمثل ذلك في وقاره وارتفاعه عن الدنيات , ووفائه للأصدقاء والأحلاف وحفاظه الشديد على العهد , وسابق الود ؛ إذ جعلوه محكّماً بين الشعراء في عكاظ , وكأنه في رأيهم الشاعر الفذ الذي لا يشق غباره , والذي لا ينطق عن هوى أو عصبية , ومن ثمّ كان حكمه قاطعاً لا يقبل طعناً ولا نقضاً .
ومنها : اتصاله ببلاط الحيرة , ولزومه النعمان بن المنذر أمير الحيرة بمدحه والتغني بمناقبه , وقد سرّ بوفوده عليه فقربه منه ونادمه , وأجزل له في العطايا والصلات , حتى أصبح شاعره الفذ , وكان بلاطه يموج بالشعراء من أمثال : أوس بن حجر والمثقب العبدي ولبيد العامري , ولكن أحداً منهم لم يكرمه إكرام النابغة , وقد صوّر ذلك في معلقته ( الأبيات : 33- 36) .
ومنها : أن النابغة استبد بمودة الملك النعمان , وجزيل عطائه , وسابغ نعمه , فلا عجب أن يثير هذا حفيظة الشعراء ليعملوا على إفساد علاقته ببلاط الحيرة , وكان نجاحهم عاملا من عوامل شاعرية النابغة ؛ إذ هرب إلى الغساسنة , ولجأ إلى بلاطهم وفي نفسه حسرة وغيظ , وأمل في العودة , لعب دوراً سياسياً إبان إقامته يرعى مصالح قومه عندهم .
ومنها : إقامته في بلاط الغساسنة منقطعاً إلى عمرو بن الحارث الأصغر وإلى أخيه النعمان بن الحارث , وقد امتدح هؤلاء بقصائد عديدة , منها القصيدة البائية التي قالها في مدح عمرو بن الحارث الأصغر والتي مطلعها :
كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وبقي النابغة عند الغساسنة مدة من الزمن إلى أن توفرت أسباب عودته إلى بلاط النعمان فترك جوارهم .
ورجاحة فكره في طليعة العوامل التي أسهمت في تفوق شاعريته ؛ إذ كان بصيراً بمواطن الكلام , متميزاً بنظرته الثاقبة , والقدرة على الملاءمة بين الأقوال والمواقف .
وكذا موهبته وذائقته التي صقلتها الدربة والممارسة جعلته يلائم بين ركني المقال , أي بين الصورة والجوهر , فهو يؤدي الدلالات دقيقة لأنه يجيد انتقاء الألفاظ الدالة , ووضعها في مواضعها الصحيحة في سياقه الشعري العام .
**- والنابغة صاحب الصنعة والتجويد والتنقيح , فهو لا يقبل كل ما يفد على خاطره , بل لا يزال يثقفه ويصقل فيه حتى يستوي له اللفظ المونق والديباجة الجزلة , وقد أتيح له أن يعيش في بيئتين متحضرتين هما الحيرة وبلاط الغساسنة ؛ فرق ذوقه , وسهل منطقه ولفظه , وإن كان لم ينس البادية ولغتها وغرابة هذه اللغة , وبالتالي فقد نفذ في أثناء ذلك إلى معان حضرية جديدة , إذ صور دينهم وترفهم وما هم فيه من نعيم , فكان ذلك مما يروق ممدوحيه , ويجعله متفوقاً في فني المديح والاعتذار .
وعن شاعريته يقول ابن قتيبة : ” كان النابغة أحسنهم ديباجة شعر , وأكثرهم رونق كلام , وأجزلهم بيتاً , كان شعره كلاماً ليس فيه تكلف , ونبغ بعدما احتنك , وهلك قبل أن يهتر ”
ونقل العسكري في ديوان المعاني عن الخليل بن أحمد : ” كان النابغة أعذب على أفواه الملوك وأبسط قوافي شعر , كأن الشعر ثمرات قد تدانين من خلَده فهو يجتنيهن اختياراً , له سهولة السبق وبراعة اللسان , ونقابة الفطنة , لا يتوعر عليه الكلام لعذوبة مخرجه , وسهولة مطلبه ” .
وقال ابن رشيق : ” وكان ابو بكر – رضي الله عنه – يقدم النابغة ويقول هو أحسنهم شعراً , وأعذبهم بحراً , وأبعدهم قعراً ” .
*= شرح المفردات :
1 يا دار مية بالعلياء فالسند *** أقوت وطال عليها سالف الأمد
الدار : منزل الإنسان ومسكنه , والجمع ديار , وأصلها دور قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها , والدار مؤنثة , وتطلق على البلد والقبيلة .
مية : علم على امرأة تغزل بها الشاعر على عادة الشعراء من افتتاح قصائدهم بذكر امرأة معلومة أو مجهولة ؛ وهو الغالب .
العلياء : مكان مرتفع من الأرض , وجاء بالياء ؛ لأنه بناها على عليت . وكذلك السند مع كونه سند الوادي في الجبل , وهو ارتفاعه حيث يسند فيه أي يصعد .
وأقوت : خلت من سكانها وأهلها . والسالف : الماضي , والأبد : الدهر .
2- وقفت فيها أصيلاً كي أسائلها *** عيّت جواباً وما بالربع من أحد
الأصيل : العشي , ويروى : { وقفت فيها طويلاً كي أسائلها } أي : وقتاً طويلاً , أو وقوفاً طويلاً . ويروى : { أصيلاناً } و { أصيلالاً } , فمن روى { أصيلاناً } ففيه قولان , أحدهما : أنه تصغير أصلان , وأصلان جمع أصيل .
والقول الآخر : أنه بمنزلة قولهم على الله التكلان , وبمنزلة قولهم غفران , وهذا هو القول الصحيح , والأول خطأ ؛ لأن أصيلاناً لا يجوز أن يصغر إلا أن يرد إلى أقل العدد , وهو حكم جمع كل جمع كثير . وقد قلبت النون لاماً في أصيلال أي فهو نفسه .
عيّت : يقال : عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه , وعييت عجزت وضعفت . وجواباً منصوب على المصدر , أي : عيت أن تجيب جواباً . وما بالربع خبر مقدم , ومن زائدة , أحد : مبتدأ مؤخر , والجملة الاسمية في محل نصب حال .
3 – إلاّ أواريّ لأياً ما أبينها *** والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
الأواري : جمع آري , وهو محبس الدابة , ويروى بالرفع على أنه بدل من أحد , والنصب على الاستثناء المنقطع من أحد أجود . اللأي : الجهد والمشقة , وقيل : البطء , يقال : التأت عليه حاجته إذا تأخرت وأبطأت , والمعنى : تبينتها وتعرفتها بعد بطء وصعوبة . والنؤي : حاجز من تراب يعمل حول البيت والخيمة , لئلا يصل إليها الماء او المطر. وقد صار مثل الحوض بالأرض المظلومة , والمظلومة : الأرض التي قد حفر فيها في غير موضع الحفر لصلابتها . والجلد : الأرض الغليظة الصلبة من غير حجارة .
4- ردّت عليه أقاصيه ولبّده *** ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
القاصي : البعيد , وأقاصيه : ما شذ منه , ويروى { ردّت عليه أقاصيه } ببناء الفعل للمجهول , وأقاصيه نائب فاعل , والرفع أجود ؛ إذ أسكن الياء لأن الضمة ثقيلة , وإذا رُوي ببناء الفعل للمعلوم فأقاصيه في موضع نصب , والفتحة لا تستثقل , فكان يجب فتح الياء . وأيضاً أضمر ما لم يجر ذكره والمعنى : ردت عليه الأمة . ولبّده : سكنه . والوليدة : الأمة الشابة , والمسحاة : مجرفة من حديد , والثأد : الموضع الندي ترابه . والضمائر : تعود إلى النؤي المذكور في البيت السابق .
5- خلّت سبيل أتّي كان يحبسه *** ورّفعته إلى السجفين فالنضد
خلت : تركت . والسبيل : الطريق يذكر ويؤنث بلفظ واحد , والجمع سبل , وسبول . والأتي : النهر الصغير , أي خلّت الأمة سبيل الماء في الأتي تحفرها . ورفعته : قدمته وبلغت به . والسجفان : ستران رقيقان يكونان في مقدّم البيت , والنضد : ما نضد من متاع البيت , أي صف .
6- أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ***أخنى عليها الذي أخنى على لبد
أضحت , ويروى : أمست , وكلاهما فعل ناقص , ولعله لا يريد التوقيت الزمني , وإنما يريد الصيرورة . والخلاء مصدر , خلاء المكان من أهله إذ ارتحلوا عنه . والاحتمال : الارتحال . وأخنى عليها : أفسدها . ولبد : كصرد آخر نسور لقمان .
7- فعدِّ عمّا ترى إذ لا ارتجاع له *** وانم القتود على عيرانة أجد
فعدّ : أي جزه وانصرف عنه . والارتجاع : الرجوع يعني من خراب الدور . وانم : ارفع . والقتود : خشب الرّحل , وهو للجمع الكثير , وفي القليل : أقتاد . والعيرانة : الناقة المشبهة بالعير لصلابة خفها وشدته , والعير الحمار الأهلي والوحشي , وقد غلب على الوحشي . أجد : هي التي عظم فقارها , وقالوا : هي الموثقة الخلق , وقيل : هي القوية السريعة .
8- مقذوفة بخيس النحض بازلها *** له صريف صريف القعو بالمسد
مقذوفة : مرمية باللحم , فهو يريد كثرته , والدخيس : الذي دخل بعضه في بعض من كثرته , والنحض : اللحم , والبازل : السن الكبير الذي يبزل اللحم , أي : يشقه , ويطلع إذا بلغت الناقة الثامنة , وطعنت في التاسعة – وحينئذ يطلع ناب البعير , وتكمل قوته . والصريف : الصوت , والصريف من الإناث بسبب شدة الإعياء , ومن الذكور بسبب النشاط والمرح .
ويروى { صريف } بالرفع على أنه بدل من سابقه , والنصب على أنه مفعول مطلق عامله محذوف وجوباً لأنه مصدر وهو أجود . والقعو : ما تدور فيه بكرة البئر إذا كان من خشب , فإذا كان من حديد فهو خطاف . والمسد : الحبل .
9- كأن رحلي وقد زال النهار بنا *** بذي الجليل على مستأنس وحد
الرحل : مسكن الرجل , وما يستصحبه من الأثاث , والرحل أيضاً رحل البعير , وهو أصغر من القتب , وجمعه رحال وأرحل . زال النهار بنا : انتصف علينا , والجليل : الثمام وهو ضرب من النبات , وهو يريد موضعاً فيه ثمام , قيل : واد قرب مكة . والمستأنس : الناظر بعينه فهو يريد ثوراً وحشياً منفرداً رأى إنسياً . وذلك أدعى لخوفه وذعره . وقد يكون الغرض من ذلك بيان سرعة ناقته وشدة جريها , فهو يريد تشبيهها بالثور الوحشي . والوحد : المنفرد .
10- من وحش وجرة موشيّ أكارعه *** طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
وجرة : أرض فلاة معروفة تكثر فيها الوحوش الضارية . والموشي : فيه ألوان كثيرة . وقيل : الأكارع الذي ليس في قوائمه سواد . وطاوي المصير : ضامر المعا , وجمعه مصران , وجمع مصران : مصارين . والصيقل : السيف اللامع , والفرد مثلثة الراء الذي لا نظير له .
11- سرت عليه من الجوزاء سارية *** تزجي الشمال عليه جامد البرد
عليه : على المستأنس , والجوزاء : برج في السماء , وسارية : سحابة , وتزجي : تسوق , والشمال : ريح الشمال , وجامد البرد : ما صلب منه .
12- فارتاع من صوت كلاّب فبات له *** طوع الشوامت من خوف ومن صرد
ارتاع : فزع , والروع بفتح الراء : الفزع , وبضمها القلب والعقل . والكلاب : صاحب كلاب والمراد الصياد . والضمير في له عائد إلى الصائد وإن شئت على الصوت . طوع : مصدر لطاع , والشوامت : جمع شامتة , والصرد بفتح الصاد البرد , والمعنى : إن المستأنس المذكور قد فزع من صوت الصياد , فبات خاضعاً له ذليلاً بسبب شدة الخوف والبرد , وفي ذلك ما يسر من يشمت به .
13- فبثهنّ عليه واستمر به *** صمع الكعوب بريئات من الحرد
بثهن : فرقهن , والضمير يعود إلى كلاّب الصيد , والضمير في عليه يعود إلى المستأنس / الثور . والصمع : الضوامر واحدها صمعاء , واستمر به : أي استمرت به قوائمه , والكعوب : جمع كعب وهو المفصل من العظام , وكل مفصل من العظام كعب عند العرب . والحرد : استرخاء عصب في يد البعير من شدة العقال , وربما كان خلقة , وإذا كان به نفض يديه وضرب بهما الأرض ضرباً شديداً .
14- فهاب ضمران منه حيث يوزعه *** طعن المعارك عند المحجر النجد
هاب : خاف , وضمران : اسم كلب , منه : من المستأنس / الثور , ويوزعه : يغريه ويرسله والمعارك : المقاتل من الإنسان والحيوان . والمحجر : الملجأ المدرك , والنجد : الشجاع المكروب .
15- شك الفريصة بالمدرى فأنفذها *** شك المبيطر إذ يشفي من العضد
شك : شك الشيء انتظمه , وشكه بالرمح طعنه وخرقه إلى العظم . والفريصة : المضغة التي ترعد من الدابة عند البيطار . والمدرى : قرن الثور , أي شك فريصة الكلب بقرنه , والعضد : داء يأخذ في العضد .
16- كأنه خارجاً من جنب صفحته *** سفود شرب نسوه عند مفتأد
كأنه : الضمير يعود على المدرى . والسفود : حديدة يشوى بها اللحم , والشرب بفتح الشين : الجماعة يجتمعون على الشراب . والمفتأد : المشتوى , وهو المكان الذي يشوى فيه اللحم .
17- فظلّ يعجم أعلى الرّوق منقبضاً *** في حالك اللون صدق غير ذي أود
يعجم : يمضغ , والروق : القرن , والحالك : الشديد السواد , والصدق : الصلب , والأود : العوج .
18- لمّا رأى واشق إقعاص صاحبه *** ولا سبيل إلى عقل ولا قود
واشق : اسم كلب , والإقعاص : الموت السريع العجل , وأصله من القعاص وهو داء يأخذ الغنم لا يلبثها حتى تموت .
19- قالت له النفس : إني لا أرى طمعاً *** وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
قالت له النفس : حدثته . والمولى الناصر .
20- فتلك تبلغني النعمان إن له *** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد
فتلك : يعني ناقته التي شبهها بالثور . تبلغني : توصلني . الأدنى والبعد : القريب والبعيد
واعتبر التبريزي قصيدة النابغة الدالية الاعتذارية من القصائد العشر , وهي من المعلقات المذهبات .
**= ودارت الأبيات العشرون الأولى حول الموضوعات الآتية :
*- ذكر الديار الدارسة , ديار مية , يصف آثارها , وما أبقى الزمن منها , عبر نغم حزين .
*- الانتقال إلى وصف الناقة وتشبيهها في قوتها ونشاطها بالثور الوحشي , ومناظر من الصيد والقنص , والعراك ما بين الثور والكلاب .
*- وصف الصراع بين الثور والكلاب .
*- وصف الناقة التي ستبلغه النعمان .
وإذا كان قد فصل بين وصف الديار ووصف الناقة , وجعلنا نحس الانقطاع المفاجئ في قوله :
فتلك تبلغني النعمان إن له *** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد
فإنه أحسن التخلص هنا من وصف الناقة إلى مدح النعمان , حيث قدّم نفسه مرة أخرى للملك , مبرئاً ومبرراً من أخطائه , معتذراً عن الجفوة السابقة , لاجئاً أخيراً إلى نوع من المديح المغلف بالحب والصداقة , وتكرار طلب التصافي والإخلاص .
ويستهل النابغة هذه الأبيات بنداء دار مية نداء المتوله المتحير , نداءً نلمح فيه نشيج الألم وتباريح الشوق ورقة المناجاة , ولكنه لا يسمع رجعاً لندائه ولا رداً عليه , فقد خلت الديار من أهلها وسكانها القاطنين في العليا والسند , وبارحوها منذ أمد طويل .
ويتقدم الشاعر بعد ذلك النداء المتوجع ليقف على تلك الديار كي يسائلها عن أهلها وما فعلته بهم من صروف الدهر وغِيره , إلا أن الديار ظلت في صمتها المعهود وسكونها المطبق وحزنها الذي يفسره ذلك الظلم الذي أحست به من خلال الرحيل عنها , وتركها عرضة للريح والمطر والفراغ , وليس ذلك الوقوف عند الأصيل إلا تكملة لصورة الحزن التي حاول النابغة أن يرسمها , لأن الأصيل رمز لنهاية النهار وبداية الغروب للوجود والأشياء .
فهو يصف آثارها وما أبقى الزمن منها , ويقول : لم يبق منها إلا الأوتاد وإلا النؤى , ويطيل في وصفه ليظهر قدرته الخيالية , فقد حفرته جارية في أرض صلبة , وما زالت ترد أتربته على حوافيه , باسطة طريقه إلى الخيام ليرد عنها سيول المطر .
وقد أبدع في تسمية الأرض التي لم تحفر بالمظلومة , وهو أول من أعطاها هذا الاسم , كأنه أحس إزاء الصخر الذي لا يحرث ولا يزرع بضرب من الظلم .
وقد ختم نسيبه بإظهار هذه الدار التي رحل عنها أهلها بمظهر بال , فقد جرّت الأيام عليها أذيال البلى والعفاء , كما جرّتها من قبل على { لبد } نسر لقمان المشهور بطول عمره وطول سلامته .
وواضح أن هذا النسيب فيه قدرة بارعة على الوصف , ولكن ليس فيه عاطفة قوية , وربما رجع ذلك إلى وقار النابغة , فهو قد يتشبب بالمرأة لا ليصور حباً , وإنما ليتمسك بهذا التقليد الثابت عند الجاهلين من افتتاح قصائدهم بوصف آثار الديار , وما صنعت بها الأحداث .
ثم ينتقل بعد هذه الصورة المحزنة لديار الحبيبة إلى صورة أخرى نلاحظ فيها انتقالاً من حالة إلى حالة وكأن الشاعر يريد منا أن لا نسترسل مع الحزن طويلاً , بل ويكاد يصرفنا عنه صرفاً يقول :
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له *** وانم القتود على عيرانة أجد
أليس في ذلك صرف للحزن وبواعثه , ودعوة للإقبال على الحياة والسعي في مناكبها , وانتقال يحسن الربط فيه بين موضوع وآخر ؟
لقد بدا النابغة في هذا التخلص اللبق من غرض انتهى إلى غرض آخر يسعى إلى إنجازه , وهو هنا وصف الناقة , شاعراً ماهراً في ترتيب الأغراض الشعرية وسوقها ضمن القصيدة الواحدة بشكل رائع .
ويرتبط وصف الناقة عند النابغة بموضوع السفر , فهو يُقدم عليه عرضاً أو تقليداً , لأننا لا نحس بتلك المودة أو العاطفة التي نحسها مثلاً عند طرفة , لقد ظلت الناقة – بنظره – مجرد وسيلة إلى غاية , وراح يصف قوتها وصلابتها وقدرتها على التحمل مقارناً إياها بثور وحشي أكارعه مزينة بما فيها من نقط , وبطنه الضامر وجلده كالسيف المسلول , يجري في الصحراء خائفاً متوجساً لما تسقط عليه السماء من برد لا ينقطع , ولم يلبث أن ذعر ذعراً شديداً إذ سمع صوت قانص يهتف بكلابه فأسرع في جريه , ولمحه القانص فبعث عليه كلابه , فاشتدت قوائمه وكعوبه مستخرجاً منها كل ما يبتغي من سرعة , ولكن الكلاب لحقت به , وكان أول ما لقيه ضمران , ونشب بينهما صراع عنيف أهوى فيه الثور على خصمه بقرنيه , ولم يلبث أن طعنه بأحدهما طعنة نجلاء , نفذت إلى ظاهر صدره تركته يعلك أعلى القرن , ولما رأى واشق ما أصاب أخاه وأنه لن يستطيع أن يعينه ولا أن يدرك بثأره أحجم عن لقاء الثور إبقاءً على نفسه , عندئذ انسحبت الكلاب لتسلم بنفسها من ضربات قرن الثور الذي تلون بالدماء فغدا كالسفود الذي نسيه القوم في موضع النار فاحمرّ والتهب , كل هذه الصور التي رسمها للثور إنما أراد النابغة منها أن يفهمنا كم هي قوية وسريعة تلك الناقة التي حملته إلى غايته :
فتلك تبلغني النعمان إن له *** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد
وهذا الوصف أكثر حيوية من النسيب السابق ؛ لما بث النابغة في الحيوان من حياة الإنسان وعواطفه وقلقه وطمعه ويأسه , فالثور خائف يترقب , والكلاب طامعة تتربص , وتنشب المعركة , فالثور يطعن طعن الرجل المدافع عن عرينه وحماه , ويقتل ضمران , وينظر أخوه واشق فيرى أن القصاص غير ممكن , وتحدثه نفسه بأنه يطمع في غير طائل ….
وبلغت أبيات المعلقة خمسين بيتاً نكتفي في تحليلنا النقدي على العشرين بيتاً الأولى من المعلقة ؛لأنها الأبيات المعبرة عن التجربة النابضة بروح الخوف والأسى , فرغم قرائن السكون , وانتفاء حيوية الوجود فإن التعبير الشعري الذي استهل به الشاعر القصيدة عبر البيتين الأولين يكشف عن تداخل حيوي تتعدد فيه الأطراف بصورة لافتة , يبرز من ذلك النداء الشخصي للدار والمستحضر للمرأة من بين سالف عمارها تحديداً , ثم تعمّد دقة التحديد للمكان , واختصاص المرتفع منه بالابتداء , ثم الانتقال من علوّ إلى ما اتصل به خفضاً , ومن حيوية الخطاب إلى هدأة الإخبار الممتزج برؤية الذات المخبرة في الشطر الثاني … مع تعمد تأكيد فاعلية الحال والزمان في الدار من خلال تتابع الفعلين الماضيين في صدر ذلك الشطر .
ثم تزداد الرؤية الذاتية حضوراً , وتشف الحال المعتملة بأعماقها عبر البيت الثاني الذي يبرز من عناصر بنيته إسناد فعلي الشطر الأول إلى الذات , مع الحرص على النص على الزمان في وقت محدد يعد رمزاً لفوات معظم النهار , وما يتصل به من صبوح وحيوية وانطلاق ووضاءة , ووشك الدخول في المخوف من الليل , مع ما فيه من ضلال وتخبط ورهبة وسكون ؛ ولذا يكون من الطبعي أن تعيا الدار المسؤولة الجواب , بل بأية جواب .
وينتفي وجود المخاطب بل كل أحد , وأي أحد , وهذا ما تولى الشطر الآخر من هذا البيت أمر بيانه في إيقاع خافت ونغمة هابطة .
لقد حقق النداء في صدر القصيدة , وإضافة المنادى إلى المحبوبة قيمة نفسية رائعة , حيث خرج النداء إلى ضرب من الاستعانة بالآخر , والاستغاثة بالمحبوب الذي يعد ه الشاعر دليلاً على صدق مشاعره الذاتية العاطفية ؛ فاستخدامه { الياء } يناسب حالته النفسية الحزينة , وفي ذكر { مية } توظيف لهذه الحالة والمعاناة , ثم إنها قد تكون النعمان نفسه .
فإذا ما انتقلنا إلى التحديد المكاني للمنادى { دار مية } وجدناه يبدأ بالنص على ما هو مرتفع ثم ينتقل إلى المنحدر الموصول به في اتجاه تلقائي نحو الهبوط , وهذا المشهد دوما ما يقترن بخيال المحبين من الشباب قبل أن يفرض الواقع عليهم ضروراته وحتمياته التي كثيراً ما تصطدم بطموحات الشباب وخيالات الحب
وقد يكون استخدامه موضع { العلياء } إيحاءً بمكانة النعمان العالية عنده , وأجد ذلك المعنى أيضاً في موضع { السند } فكأنه إيحاء بأن النعمان كان سنداً له .
ويأتي الوصف مفعماً بظلال الانكسار أمام سطوة الزمن وتحولات الواقع عبر الإخبار الذي تتابع في صدارته الفعل الماضي في قول الشاعر : { أقوت وطال عليها سالف الأبد } ففي الإقواء تحول لافت عن المطرود من مألوف الحال والواقع .
وفي اختيار سالف الأبد فاعلاً تراكم للأثر الناتج عن جهامة الفعل وشدته على الشاعر , وفي وقوع الحزن { عليها } دلالة تردنا إلى دار المحبوبة ما يعني أنها تفسح المجال رحباً لخيالنا ليمثل هيئة التحولات المدركة لناظري الرائي الواصف والإحساس النفسي الملابس للحظة الإدراك والوصف .
ثم يوافينا ضمير الذات مكثفاً متتابعاً في الشطر الأول من البيت الثاني ؛ ليقدم لنا هذه الذات في حال معينة , وفي مكان بعينه , وخلال مدة زمنية معينة .
وأما حاله فيجسده الفعلان المقترنان بضمير الذات في قوله : { وقفت .. أسائلها } ففي الوقوف امتثال وسكون يناسبان موقف الشاعر المأزوم المهتز نفسياً , إنه يلوذ بالماضي في محاولة للتماسك والاحتشاد بالقوة أمام طوفان اللحظة الحاضرة والمستقبلية .
وفي السؤال استدرار للعطاء الروحي الذي يعين النفس على التماسك , ويعيد شحذ قواها , وفي العدول إلى الصيغة الصرفية { أسائلها } دلالة على مشاركة الدار همومه ؛ فهي ليست داراً صامتة بل فعالة , وشخصية رئيسية .
ومن الفعلين نستبين دلالتي المكان والزمان , فقد حرص على تحديد المكان بقوله : { فيها } فلم يقل : { بها أو عليها } ؛ لأنه يريد أن يجسد حال الاستغراق , وعمق استبطان الماضي , ولا يذوق مذاق ذكريات المكان إلا هما أعني المحب والمحبوب .
وأما دلالة الزمان فهي في قوله : { أصيلاً } ذلك الوقت القصير الأمد , ولا نراه يقصر إلا في أيام الشتاء الباردة فيجتمع على الذات انكماش الجسد , فضلاً عما تحمله المفردة من شحنات الحزن والانكسار , وتضاؤل النفس المهتزة وفرط ضعفها , ما يكشف لنا شدة حاجته إلى المؤازرة والعون , ولكن كانت النتيجة مخيبة لأمله ورجاه ؛ ذلك أن الدار قد { عيت جواباً } , وفي العي تمام العجز , والعدول عن { خرست – صمتت } إلى { عيّت } للمبالغة فالنعمان رغم الإلحاح من النابغة رفض العفو , وفي تنكير { جواباً } نفي لأي جواب , وقد أكد أسلوب القصر في قوله : { وما بالربع من أحد } مطلق النفي لأدنى العدد { أحد } أي أحد وكل أحد فليس بالدار فقط , وإنما الربع والحي وعموم المنزل من حول الدار , وعندئذ تكتمل مقومات الإحباط والانكسار فيأتي الاستثناء الذي يزيد الشعور بهذا الإحساس حيلة نفسية مارسها الشاعر نشداناً للتخفيف , وتوسلاً للإفضاء في قوله :
إلا الأواريّ لأياً ما أبينها *** والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ومن ثم كان الافتنان في رسم معالم الصورة الفنية التي بدأت بهذا الاستثناء , فإذا المستثنى يبدأ بتلك الأعواد المعقوفة المثبتة في الأرض , وكأنها تحاكي حالة الانكسار , والاستمساك بعمق المكان الذي لا يكاد شاعرنا يتبين معالمه إلا بصعوبة .
وتأمل ذلك الحاجز الترابي الذي يبدو كالحوض وقد استدعاه الشاعر لتمام التشبيه , فوصفه وصفاً خاصاً ؛ فهو ليس كمألوف الأحواض , وإنما الحوض بالمظلومة الجلد بصفة خاصة . ولم يقف عند هذا الحد بل نمّى الصورة , واستكمل جزئياتها , وهو يتمثل حال الأمة المجتهد التي جمعت أطراف ذلك الحوض , ويستحضر طريقة ضربها الطين المجتمع بالمسحاة , وكأني به يريد أن يتمثل فكرة الاستمساك أمام ما يمكن أن يجرف ويهدم في أعماقه الشعورية , يتضح في قوله :
ردتّ عليــه أقاصيه ولّبــده *** ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
خلّت سبيل أتيّ كان يحبسه *** ورفعتــه إلى السجفيــن فالنضــد
ويلفتنا تكرار الفعل { أضحى } مسنداً مرة إلى الدار , وأخرى إلى أهلها , وهو الفعل الذي يدور جذره اللغوي حول معنى الجلاء والوضاءة والانكشاف , وكأن الشاعر يرى الحقيقة والواقع على نحو جلي , فقد خلت الدار , ورحل أهلها , يكشف عن هذا قوله :
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا *** أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وتسهم ثقافته في استدعاء رمز وشخصية لقمان الحكيم , فالشاعر أحوج ما يحتاج إليه في هذه الأزمة الحكمة , ثم إن الجملة المذكورة تصرح كذلك باسم { لبد } آخر نسور لقمان الذي عمر طويلاً غير أنه في النهاية واجه ما واجهه سابقوه من نسور لقمان , وكأني به يستدرك على رحيل الأهل رحيلاً في المكان والزمان بذكر المصير الحتمي الموت , وعليه التسليم بتلك الحقيقة , ومن هنا ينبغي أن يواجه أزمته ويختار لها الوسيلة المعينة ولذلك يستهل أبيات هذه المرحلة قائلاً :
فعدّ عما ترى إذ لا ارتجاع له *** وانم القتــود على عيرانــة أجــد
مقذوفة بخيس النحض بازلها *** له صريف صريف القعو بالمسد
بصيغة الخطاب , وحدة الأمر تترتب النتيجة على المقدمات , ففعل الأمر الخاطف { عدّ } بقلة أصواته , وتشديد عينه مختصراً الزمن والحدث في حركة سريعة . أقول إن هذه المفردة قد جسدت حيوية الحركة وسرعة الانطلاق ؛ فكأنها تنتقل عن المكان أو المشي المألوف إلى ما يشبه القفز وسرعة العدو .
وتضمن اسم الموصول { ما } شمولاً وتعميماً لكل ما شمله المشهد السابق , ولذا بدا الإيقاع سريعاً , والجرس عالياً , والنغمة صاعدة ؛ كي يفرغ الشاعر – المتحدث والمخاطب – إلى الأمر الجديد , فإذا هو أمر بإعلاء الرحل المعد للناقة القوية الصلبة التي تشبه الثور الوحشي , والتي عظم من ظهرها الفقار , كأنما خلقت خصيصاً للمهام الصعبة .
ويطرد الإيقاع السريع في وصف الناقة ؛ ليجسد حيوية الحركة المصاحبة للتأهب , والانطلاق صوب الوجهة الجديدة , فالناقة لم يتنام جسدها تدريجياً , وإنما هي { مقذوفة } البازل { بدخيس } اللحم كتل متراكمة بعضها فوق بعض حتى إنك لتسمع صوت احتكاكها , كأنه صوت بكرة , يجريها الحبل بجريانه فيزيد في دورانها .
والتعبير بقوله : { لا ارتجاع له } نفي للأدنى وصرف للبصر إلى ما هو أبعد , والاعتلاء – أخذاً من الفعل { انم } فيه حركة سريعة تناسب فتوة المنطلق وحدة الانطلاق .
والوصف بـ { عيرانة أجد } أفادنا معنى القوة والفحولة والأمل بمستقبل مفعم بالحيوية والجدة بعدما انكسر ماضية .
وكان لصيغتي المبالغة { مقذوفة } والمصدر { دخيس النحض } أثر في دعم الفاعلية الصوتية والدلالة المكثفة .
وأما تكرار المصدر { صريف } بما لأصواته من طبيعة خاصة في حكاية صوت المشبه به , وبما لصوت المد في الكلمتين من أثر في تجسيد حركية الامتداد المتصورة مع جريان البكرة والحبل . وتطالعنا صورة فنية تنضح بالجدة والطرافة في قوله :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا *** بذي الجليل على مستأنس وحد
وإن كان مسبوقاً إلى اتخاذ الثور الوحشي مشبهاً به للناقة إلا أن ما يميزها عن غيرها روعة الزمان والمكان الواقعين بين ركني كأن , فالزمان وشك انتهاء النهار , ومعنى ذلك أن الناقة واصلت السير منذ الصباح الباكر عبر وقدة الضحى ولهيب الظهيرة , وعلى امتداد المسافة حتى أوشك النهار كله على الانتهاء , ومن الطبعي إذن أن يبلغ بها الجهد مبلغاً كبيراً .
وأما المكان فهو تلك المنطقة المعروفة بصعوبة السير فيها لكثرة الشوك النابت بها , فهل شكل هذا أو ذاك عذراً للناقة في بطء السير , أو الركون إلى الراحة , أو ظهور بادرة الوهن والكلال
ويوافينا بالطرف الآخر من الصورة فكأنما الرحل ليس على ظهر ناقة موصوفة بالقوة والنشاط والسرعة والصلابة , وإنما على ظهر ثور وحشي موصوف بعدد من الصفات تتلاءم مع طبيعة الصراع بين الإنسان والطبيعة فهو { من وحش وجرة , موشي أكارعه , طاوي المصير , كسيف الصيقل الفرد تسري عليه ريح الشمال , وتتساقط عليه جوامد البرد , يقف في وسط هذه العواصف ليلاً مفزوعاً } , هذه الصفات تقودنا إلى حدث درامي مثير حين يقول :
سرت عليه من الجــوزاء ساريـة *** تزجي الشمــال عليــه جامد البــرد
فارتاع من صوت كلاّب فبات له *** طوع الشوامت من خوف ومن صرد
فبثهــنّ عليـــه واستمــــّر بـــــه *** صمع الكعوب بريئــات من الحـــــرد
فهاب ضمران منه حيث يوزعه *** طعن المعــارك عنـــد المحجر النجــد
شك الفريصة بالمـدرى فأنفذهــا *** شك المبيطــر إذ يشفــي مــن العضـــد
كـأنه خارجـاً من جنب صفحته *** سفـــود شـــرب نســـوه عنــد مفتــــأد
فظلّ يعجم أعلى الرّوق منقبضاً *** في حــالك اللــــون صدق غير ذي أود
لمّا رأى واشق إقعاص صاحبه *** ولا سبيـــــل إلــى عقــــل ولا قــــــود
قالت له النفس : إني لا أرى طمعاً *** وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
نلحظ أن طول الجملة الإخبارية التقريرية واقترانها بالنغمة الهابطة والإيقاع الهادئ أسهم في إشاعة الإحساس بالأمل والخير , وسرعان ما تستفزنا الصورة الدرامية الحركية والإيقاعية عبر الفاء العاطفة راسمة مشاهد متتابعة بالغة الإثارة .
كما عمد الشاعر إلى تصوير ناقته عبر اختيار لفظتي { صمع – بريئات } وصفاً لكعوب الثور ؛ فالتقى الإثبات للصحة , والنفي للعيب أو النقص على تأكيد مقومات القوة والسرعة لديه .
وفي ذكر اسم الكلب { ضمران } دلالة نفسية أفصحت عن دفاع الثور واستماتته وكان في تكرار الفعل { شك } إيحاء بخفة الحركة وسرعتها , مع دقة مكان الطعن المتناهية , وتحينه للفرصة .
وفي استعارة { المدرى } للقرنين استدعاء لمعنى الحدة والصلابة , كما وفق في اختيار الأداة الرابطة بين الفعل والنتيجة في قوله : { فأنفذها } , ثم الحرص على بيان نوع الضربة عبر المفعول المطلق { شك المبيطر } , وكذلك الإيحاء بالدقة والمهارة عبر الجملة الظرفية { إذ يشفي من العضد } . وينسج الصورة مفصلة في البيت التالي فيقول :
كأنه خارجاً من جنب صفحته *** سفود شرب نسوه عند مفتأد
حيث رأى في طرف القرن الخارج من خاصرة الكلب – مختلطاً بدمائه – سفود شواء خلفه رفقة من الندامى بعد أن استمتعوا بمجلس الشراب والشواء , فالبعد النفسي هنا واضح إذ لا يخفى أن الإحساس بالانتصار للثور إحساس غمر نفس الشاعر فسعد به , ولا ريب أن الرمز هنا حاضر؛ فكأنني ألمح أن الشاعر يتعرض لمن يتربص به , ويريد أن يوقعه فريسة الملك افتراء وحقداً , وهو يؤمل في أعماقه أن ينال ممن فعل هذا بضربة نافذة كضربة الثور للكلب , ويريد أن يسعد بنتيجة ذلك سعادة الرفاق الذين استمتعوا بمجلس الشراب والطعام حول النار المتأججة لإنضاج ما لذ من الشواء .
وترسم الفاء العاطفة الرابطة حالة الكلب البائسة بعد تلك الطعنة فيصورها قائلاً :
فظل يعجم أعلى الرّوق منقبضاً *** في حالك اللون صدق غير ذي أود
وكأن نهاية الكلب متواصلاً في عض القرن الحاد , مستميتاً في إنقاذ نفسه ولكن لا سبيل إلى ذلك حتماً ستكون نهاية خصومه .
ويجلو الشاعر صورة من الحوار النفسي عبر مشهد آخر يشخص فيه حالة كلب آخر يراقب الأحداث على وجل , فلما رأى ما آل إليه أمر ضمران صاحبه , وقد ذهب دمه هدراً , وأنه لا سبيل إلى الدية ولا القصاص والأخذ بالثأر أيقن أن من الحكمة أن ينجو بنفسه , ولا يخفى أن أسلوب القصر , وإتباع النفي بالنفي هنا يشير إلى هول المشهد من منظور هذا المراقب إلى الحد الذي دفعه إلى النكوص بعد أن أمعن في سرعة العدو إثر الثور موقناً – مع رفيقه – أنه سوف يدركه , وينال منه , ويمنح كلاّبه صيداً ثميناً , ولكن :
لمّـا رأى واشق إقعـاص صاحبه *** ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس : إني لا أرى طمعاً *** وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
كان حديثاً واضحاً كشف عنه { التوكيد بإني , وضمير الذات , ونفي الرؤية التي تمنح النفس اليقين في الزمن الحالي والآتي , وإفراد المعمول { طمعاً } وتنكيره ليشمل كل مطمع , وتكرار حرف التوكيد إن لتجسيد الإحساس الداخلي للرائي واشق , واختيار لفظ { مولاك } الصائد على سبيل المغايرة لبيان العلاقة الوثيقة بينهما إذ إنه ليس صاحبه فحسب , وإنما صاحب فضل عليه وسيادة , ثم الإخبار بنفي السلامة أولاً , والصيد ثانياً , وكأنما كان المؤمل هو السلامة فحسب لا الصيد مع أن العكس كان دافع السعي والمتابعة .
وفي تكرار { لم } النافية , واختيار صيغة الفعل المضارع { يسلم – يصد } ما يعين على استحضار المشهد لناظريه المتابع أو المتلقي } .
إننا نعتقد جازمين أن الشاعر ما عمد إلى الحديث عن هذه الناقة إلا بدافع إثبات البصمة الفنية الذاتية في سياق التقاليد الشعرية الراسخة هذا أولاً , وحسن التوسل إلى وجدان المخاطب وهذا ثانياً , وتأكيد تميز مكانته الشعرية التي يعرف أن المخاطب حريص عليها عارف بقدرها وهذا ثالثاً .
ولا شك أن في هذا كله دحضاً للخصوم , وتحقيراً للوشاة , وإفساداً للعلاقة ما بينه وبين النعمان , ومن حق هذه المهمة الصعبة , والغاية السامية أن يحتشد لها بما تستوجبه المهمة من عُدة ومقومات , وعلى رأس تلك العدة الوسيلة والرفيق .
فتلك تبلغني النعمان إن له *** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد
ولذا عمد إلى الإشارة المعظمة , والمضارع الدال على الثقة في المقدرة الآن وبعد الآن , وذكر اسم { النعمان } جاء للتعظيم والإلماح إلى تفرده ومطلق هيبته , ثم أردف ذلك بالإخبار التقريري المؤكد غير أنه عمد إلى قصر الوصف عليه , حين قدم متعلق الخبر { له } , وجاء بالمصدر { فضلاً } منكراً تعميماً ونفياً لكل حد يمكن أن ينتهي إليه ذلك الفضل الذي خص به النعمان , أو معيار يقاس به وانطلاقاً من هذا البيت يحسن الشاعر التوسل إلى مدح النعمان متخذاً من هذا الانتقال مدخلاً لاسترضاء نفسه واستصفائها مما قد لحقها بأثر الوشاية التي تعرض لها النابغة عنده افتراءً وكذباً .
**- الأفاق الفنية للمعلقة :
لقد امتازت ( الأبيات العشرون ) بجزالة اللفظ ومتانة التركيب , ونقوى الجزالة , ولا شك أنها قد دنت إلى حد ما من الغرابة , ففي وصف الأطلال نجد أسماء مواضع الديار والأماكن { ديار مية – العلياء – السند – ذي الجليل – وجرة }, وهي أسماء لاصقة بماضي الشاعر , وذكرى محبوبته , ورمز عهده الماضي , ومن هنا اتسمت بالغرابة , وإلى جانب أسماء الأماكن نجد ألفاظاً تصور آثار الديار وما بها من أحجار ورسوم كشفت عن صراعه النفسي نرصدها في قوله : { كالأواريّ – النؤي– الحوض – المظلومة الجلد – المسحاة – الثأد – السجفين – النضد } , كما نجد ألفاظاً تعبر عن القدم والخراب والتحول والفناء من مثل : { خلاء – احتملوا – أخنى – لبد } .
ويجزل اللفظ في وصف ناقته العظيمة , فتتراءى لنا في قوله : { عيرانة أجد – مقذوفة – بدخيس النحض – بازلها له صريف – صمع الكعوب – مستأنس – الصيقل }
والشاعر ابن بيئته يستمد ألفاظه من مصادرها الطبيعية , حيث تطالعنا الألفاظ ذات الصلة بالحياة الاجتماعية من مثل قوله : { أواريّ – النؤي – الحوض – ضرب الوليدة بالمسحاة – السجفين – النضد – القتود – القعو – السيف – شرب الخمر –– المسد – العقل – القود – المبيطر – الشوامت – السفود – العضد – الإقعاص وهو مرض يصيب الغنم – الصيد – السيف } .
كما تطالعنا أسماء الأشخاص والحيوان , ولا شك أن لها تأثيراً في نجاح تجربة الشاعر من مثل : { مية – النعمان – الصائد – لبد – ضمران – واشق – الناقة – الثور – الكلاب } .
وأما دلالة الزمان { الضحى – الأصيل – النهار } ؛ فقد ساهمت في كشف انكماش جسده وتضاؤل نفسه المهتزة , وفرط ضعفها , وحاجتها إلى العون والمؤازرة للوصول إلى غايته , بالإضافة إلى ما توحيه الدلالة الكونية من قوة وصبر وعزم ونشاط وتحمل قد يرمز بها الشاعر إلى نفسه أجدها في المفردات الآتية : { الجوزاء – الشمال – البرد } .
كما كان للون – الأحمر المخلوط بالأسود – دلالته النفسية عند الشاعر , ولا سيما حينما تخضب الكلب في دمه , واستمات في الدفاع عن نفسه إلا أن الطعنة لم تمهله فقضت عليه , وهذا ما أراد الشاعر إبرازه , فقد رمز بحلوكة اللون إلى ما كابد الكلب من ألم , وفيه ما فيه , أجد ذلك في قوله :
فظل يعجم أعلى الرّوق منقبضاً *** في حالك اللون صدق غير ذي أود
ويعزف كثيراً على الألفاظ النفسية ؛ لعله يجد فيها سبيلاً إلى الخروج من غضب النعمان , وسطوته وجبروته , وعساه أن يثبت براءته , فيرضى , فيعفو عنه , ويستعيده إلى بلاطه , ولذا ازدحمت القصيدة بالألفاظ النفسية ومنها : { يا دار مية , وقفت , أسائلها , عيت جواباً , وما بالربع من أحد , ما أبينها , المظلومة , الوليدة , خلّت , فعدّ , إذ لا ارتجاع له , زال النهار بنا , طاوي المصير , جامد البرد , فارتاع من صوت , كلاّب , فبات , طوع الشوامت , من خوف ومن صرد , بريئات من الحرد , فهاب , طعن المعارك , شك الفريصة , يشفي من العضد , يعجم أعلى الروق , منقبضاً , قالت له النفس , تبلغني } .
واستطاع النابغة الذبياني أن يلفتنا بتلّون أساليبه في القصيدة , ففي الأبيات ( 1- 8 , 20 ) يستخدم الأسلوب التقريري عدا البيت الثالث ( حيث تشبيه النؤى بالحوض ) , فإقواء الدار , ووقوف الشاعر فيها وقت الأصيل وقفة قصيرة , حيث راح يسألها دون أن تجيب ؛ إذ ليس بها من بها : مرابط الخيل وحواجز التراب حول الأخبية , تلك الحواجز التي تلبّد ترابها وتصلبت أرضها بفعل جريان السيول ثم انقطاعها مرة بعد مرة .
وفي البيت العشرين يحسن الشاعر التوسل إلى ممدوحه النعمان متخذاً من هذا الانتقال مدخلاً لاسترضاء نفسه واستصفائها مما قد لحقها بأثر الوشاية التي تعرض لها النابغة عنده افتراءً وكذباً .
ويهزنا الأسلوب التصويري من خلال منظر المطاردة الدرامي بين الكلاب والثور , هذه المطاردة التي تقع بين المشبه به { الثور } و المشبه { الناقة } وتحتل الصورة الأبيات من ( 9- 18) .
ونستشف الأسلوب الحواري في البيت ( 19) , وقد تضافرت العناصر الأسلوبية في إنجاح تجربته وسأسردها , وأبين شواهدها ؛ إذ قد سبق توضيحها في التعليق النقدي , ومنها :
* أسلوب النداء – وهو نداء لما لا يعقل – في البيت ( 1 ) , وقد خرج عن معناه الأصلي إلى التوله والحيرة والحزن والاستعانة بالآخر , والاستغاثة بالمحبوب .
* أما استخدام صيغ الأفعال فقد جاءت مستغرقة ومتنوعة من خلال أزمنتها الثلاثة , معبرة عن حالة الحزن والأسى والصراع , من مثل : { عيت أقوت – طال – وقفت – أسائلها – خلّت – ورفعته – فارتاع – فبثهن – فهاب – فعدّ – انم – زال – سرت – واستمر – فأنفذها – شك- فظل يعجم – قالت – لم يسلم – لم يصد – تبلغني } .
* كثافة ضمير الذات حيث جاء متتابعاً في معظم أبيات المعلقة من مثل : { وقفت – أسائلها – عيّت – ما أبينها – ردت – خلت – رفعته – أضحت – فعدّ – وانم – رحلي – فارتاع } ؛ ليقدم لنا هذه الذات في حال معينة , وفي مكان بعينه , وخلال زمنية معينة .
* كما وظف بعضاً من الأساليب في كشف حالته النفسية , ومنها :
أسلوب الاستثناء والقصر في البيتين ( 2, 3 ) , وأسلوب النفي في الأبيات ( 2, 7, 18, 19) . وأسلوب التأكيد في الأبيات : ( 9, 16, 19, 20 ) . وأسلوب التقديم في الأبيات : ( 1, 2, 8, 12, 20 ) .والفاء العاطفة الرابطة في الأبيات : ( 1, 12, 13, 14, 15, 17) . وأسلوب التنكير في الأبيات : ( 2, 12, 19, 20) . وأسلوب التكرار في الأبيات : ( 6, 8, 12, 15, 18, 19, 20) .
وقد أعطى القصيدة أهمية فنية وقيمة جمالية ؛ لأن اللفظ المكرر الملح وثيق الصلة بالتجربة الشعرية , وبالحالة النفسية والشعورية التي يصدر عنها الشاعر .
كما استدعى الشاعر أسلوب الرمز استدعاءً تاريخياً عفويا تلقائيا وهو { لبد } للتعبير عن مشاعره وأحاسيسه .
وحضرت الجملة الحالية في الأبيات : ( 1, 2, 4, 9, 18) . وزاوج الشاعر بين الجمل القصيرة من مثل : { أقوت , أسائلها – عيت جواباً , ما أبينها , فعدّ , فأنفذها } وبين الجمل الطويلة من مثل : { ردت عليه أقاصيه ضرب الوليدة , ورفعته إلى السجفين فالنضد , وان القتود على عيرانة أجد , له صريف صريف القعو بالمسد , سرت عليه من الجوزاء سارية , فارتاع من صوت كلاّب , واستمر به صمع الكعوب , شك الفريصة بالمدرى , كأنه خارجاً من جنب صفحته سفود شربٍ , فظل يعجم أعلى الروق منقبضاً , لما رأى واشق إقعاص صاحبه , قالت له النفس إني لا أرى طمعاً , وأن مولاك لم يسلم ولم يصد , إن له فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد } .
وكان لتعدد الصفات المتلائمة مع طبيعة الصراع بين الإنسان والطبيعة حضورها المميز في وصف الناقة فهي : ( عيرانة أجد , مقذوفة بخيس النحض , له صريف , مستأنس وحد , من وحش وجرة , موشيٍّ أكارعه , طاوي المصير , كسيف الصيقل الفرد تسري عليه ريح الشمال , وتتساقط عليه جوامد البرد , يقف في وسط هذه العواصف ليلاً مفزوعاً }
والوحدة النفسية ملمح بارز في المعلقة إذ يمكننا الإمساك بخيط تنتظم به القصيدة , ويحرك عناصرها اللغوية نحو تجسيد عواطفه وتشكيل صورته الشعرية , وقد كان محرك هذا الخيط في الواقع باعثاً نفسياً تهيأ لنا في الإحساس بالخوف الذي استوطن قلب الشاعر , وألقى بظلاله على كل عناصر القصيدة , سواء أجاء ظاهراً في القصيدة أم بقي كامناً في ضمير الشاعر , ولولاه ما وجد الشاعر سبباً لأن يقول شيئاً .
إن الاتهام هو المسبب للخوف , ونتج عن الخوف التبُّرؤ والتنصل من الاتهام أو من الذنب , ولحق بالتبرّؤ الاستعطاف والمدح , وتكشف الأبيات من ( 9- 19 ) منظر الخوف أو نتيجة الشعور به , فالنابغة يقدم بهذه الصورة – صورة الثور مع الصائد وكلابه – معادلاً موضوعياً لسطوة النعمان وقوته وبطشه بأعدائه , وثمة تعليل آخر وهو أنه قد صار عند الشعراء معادلاً للصراع ورمزاً للنجاة في قصيدة المدح .
ولذا نجد في الأبيات رابطا واحداً وهو الدفاع عن النفس الذي أملى على الشاعر كل المواقف وجعله خاضعا لها فهو يجول هنا وهناك , وفي نفسه غرض واحد هو نيل رضى النعمان , وعودة عطائه , وبيان براءته .
والمعلقة تنطوي على روح قصصية تسري في أوصالها يمتزج فيها القصصي بالسيّالة الشعرية , حتى يبدو ثمة انسجام داخلي في بنية القصيدة , وتظهر بعض ملامحه التي من شأنها أن تضفي على القصيدة طابعاً تشويقياً يشد القارئ , كما تمدها بعنصر مهم من عناصر الوحدة الموضوعية والفنية , وهذا واضح جلي في الأبيات ( 9- 19) سواء كان عن طريق السرد أو الوصف أو الحوار ؛ حيث يعرض الشاعر مشهداً قصصياً متكامل الأبعاد الفنية .
وتعد الصورة الشعرية من أهم الوسائل الفنية – إن لم تكن أهمها على الإطلاق – التي تمكن الشاعر من نقل أحاسيسه , والتعبير عن معانيه وانفعالاته ؛ بقصد التأثير في غيره .
والصورة الشعرية – شأنها شأن غيرها من الوسائل الفنية – ليست غاية في ذاتها , وإنما هي أداة فاعلة ومؤثرة من أدوات الشاعر , وقناة مهمة من قنوات التوصيل والإثارة ؛ وهي تظل قادرة على التأثير في القارئ والسامع وتحريك وجدانهما , وهز مشاعرهما ما دامت بعيدة عن التكلف والافتعال , وما احتفظت بطابع العفوية والتلقائية .
وترد الصورة في هذه الأبيات معبرة عن ذروة معاناة الشاعر , ومشيرة إلى بؤرة تجربته الشعورية فقد جسدت مأساته , وكشفت عن معاناته , وأزمته مستعيناً على ذلك بالتشبيه والاستعارة تارة والتشخيص والتجسيد تارة أخرى , اتسمت بطابع الحركة الذي يضفي عليها الحيوية والإثارة , كما تجلى لنا غلبة الطابع المادي الحسي على الصورة , ولعل مرد ذلك إلى وطأة الواقع , واستشعاره آلامه النفسية والجسدية التي جعلته شديد الارتباط بمعطياته الحسية , شديد الإحساس بما حوله .
وتشكل الصور البصرية نسبة عالية في الأبيات , ولا شك أن في هذا ما يتفق مع طبيعة الإنسان الذي يعتمد اعتماداً كلياً على حاسة البصر في إدراك ما حوله من الأحوال والهيئات والحركات والألوان , كما أن شاعرنا قد استطاع أن يجمع في صوره بين حاستي البصر والسمع , فجاءت بعض صوره مرئية مسموعة تدرك بالحاستين معاً؛ لتتيح للقارئ المتذوق مزيداً من الحضور الحسي .
والمتمعن في صور الشاعر التي نسجها خياله يجد أنه قد استمدها من مصادر حيوانية وطبيعية متحركة وساكنة , بدوية وحضرية , ومن ذلك :
*- تشبيه النؤي بالحوض , ومصدرها من الحياة البدوية .
*- صورة الوليدة تجمع أطراف ذلك الحوض , ومصدرها من الحياة البدوية .
*- صورة الناقة , يشبه صريف بازلها بصريف البكرة الدائرة بالحبل , ومصدرها من الحياة البدوية
*- صورة الناقة بالثور الوحشي إظهاراً لنشاطها وحدتها في السير , ومصدرها من الحياة الحيوانية .
*- صورة الناقة بالثور الوحشي , وذلك عندما استعار المدرى للقرنين , كما شبه طعن الثور بطعن الشجاع وشبهه بطعن البيطار , ومصدرها من الحياة الاجتماعية والحيوانية .
*- صورة الكلب يعجم أعلى الروق وقد اسود لونه , ومصدرها الحياة الاجتماعية والحيوانية .
*- صورة القرن كالسفود , ومصدرها الحياة الاجتماعية .
*- صورة الكلب واشق , وقد شخصه يرى ويترقب ويحدث نفسه بالثأر ويذعن للهروب . ومصدرها من الحياة الحيوانية , وقد تضافرت الصور الجزئية لتشكيل الصورة الكلية وهي خوفه من النعمان , والإلحاح على الوصول إليه , وإثبات براءته , والقضاء على خصومه , والعودة إلى ما كان عليه من حظوة في المنزلة ورعاية وعناية , وما كان يجنيه من عطايا وهبات , وقد جاءت كلها في نسيج أساليب الشاعر وصوره ضمن عناصر الموقف الاعتذاري
ومعاني الشاعر تمتاز بالبساطة والوضوح والبعد عن التكلف والمبالغة , ومرد ذلك إلى أن الشاعر كان يتغنى بذاته ويعبر عن أحاسيسه ومشاعره , ويصور الأشياء من غير أن يمس جوهرها ويغير صورها ومن هنا كان شعره مرآة صافية عكست حياته بدقائقها ووجوهها المختلفة كما عكست بيئته وما فيها من ديار وحيوان ونبات , كما تمتاز بطابعها التقريري فالشاعر تعود ذكر الحقيقة عارية من كل ثوب يغيرها , ومن كل لون يزيفها , فبدت وكأنها شيء راسخ , وجاءت أيضاً مادية حسية , فالشاعر ينفخ فيها الروح ويحيلها أشخاصاً تحس , ويصورها كائنات محسوسة ملموسة مستقاة من عالم الحس والواقع .
ولما كانت الحركة سمة بارزة في حياة العرب التي قامت على الرحلة والانتقال فقد انتقلت إلى موضوع الوصف كما في الأبيات : ( 9-19) , ولا نعدم ترتيب المعاني وترابطها وتلاحمها وتسلسلها فهو يحدد مكان الدار وزمن وقوفه بها , وينفي وجود أحد فيها , ويصف آثارها ثم يعتبر بما أتى عليها , وأخيراً يتجاوزها إلى ركوب ناقته التي ستبلغه النعمان .
ولم يكثر من المحسنات البديعية في معلقته ؛ لأن الهدف من قصيدته إيصال المعاني واضحة , وليس التزيين , ومع ذلك نجد أن قد استعان ببعض الألوان البديعية التي ساهمت في نضج التجربة ومنها :
*- التجريد في قوله :
فعدّ عما ترى إذ لا ارتجاع له *** وانم القتود على عيرانة أجد
فهو يريد الإعراض عن ديار مية الخالية من أهلها , والحث على السفر بالركوب على ناقته .
*- الجناس في قوله :
شك الفريصة بالمدرى فأنفذها *** شك المبيطر إذ يشفي من العضد
فجانس بين { شك وشك }, بين الفعل والمصدر منشئاً صورة من التشبيه البليغ فالثور شك فريصة الكلب بقرنه فعل البيطار الذي ينفذ مبضعه في لحم الدابة مداواة لها من العضد .
*- التدبيج في قوله :
فظل يعجم أعلى الرّوق منقبضاً *** في حالك اللون صدق غير ذي أود
فقد رمز بحلوكة اللون إلى ما كابد الكلب من ألم .
*- التصريع في البيت الأول لما يوفره من كثافة موسيقية مؤثرة , ولقدرته على جذب انتباه السامع .
*- الطباق الاسمي في قوله : { الأدنى والبعد } لبيان قيمة الممدوح على الناس , وعموم فضله .
والمعلقة غنائية , والشعر ذاتي يمثل صاحبه وعواطفه ومشاعره ويردد صوته في مختلف أقسام المعلقة , فالشاعر في وصف الأطلال يعبر عن عاطفة الحنين والشوق , ويبدي أساه وحزنه وتولهه لفراق حبيبه , يتلهى بوصف الآثار معرباً عن أسى خفيف لطيف معتبراً بما لحقها من خراب ودمار , وفي وصف ناقته تبدو مشاعر الإعجاب بها , والافتخار بركوبها , والفرحة بالسفر عليها , لأنها موصوفة بالقوة والنشاط والحيوية والصلابة .
وفي جانبه الاعتذاري تبدو مشاعر التملق والطمع في العفو والتعبير عن الخوف والقلق من جرّاء غضبه عليه , وإبعاده له , وبذا دخل النابغة في باب عفوه متبرّئاً من وشاية الواشين به
وهي عاطفة صادقة ثابتة مستمرة في كل أبيات المعلقة .
والموسيقى أبرز عناصر الشعر بعامة ؛ والشعر العربي بخاصة . وقد كان ارسطو يرى أن غريزة الموسيقا أو الإحساس بالنغم إحدى علتين رئيستين يرجع إليهما الدافع الأساسي للشعر كما أن نقاد الأدب من قدماء ومعاصرين يرون ان موسيقا الشعر تزيد من انتباهنا , وتضفي على الكلمات حياة فوق حياتها , وتجعلنا نحس بمعانيه كأنما تمثل أمام أعيننا تمثيلاً عملياً واقعياً .
والوزن والقافية عنصران أساسان من عناصر الشعر العربي , ووسيلتان حيويتان من وسائل الإبداع والتعبير , فقد ألفت الأذن العربية ان تستمع إلى المشاعر , والأحاسيس والانفعالات , والمواقف العاطفية , والحالات النفسية موقعة على نغمات وإيقاعات معينة من خلال قواف تتكرر يقف عندها الشاعر , تهيّئ للسامع فرصة التأمل والتذوق , والإحساس بالجمال .
وقد سكب الشاعر النابغة آهاته وأناته في بحر بسيط ذي النغم المديد ؛ أستوعب فيه من المعاني كل ما أراد أن يبوح به نحو ممدوحه العظيم , فقد احتضنت تفاعيله وصف الأطلال والتغزل بمية ووصف الناقة والثور الوحشي كما اتسعت للمدح والاعتذار وقد صرع مطلعها وأقام قافيتها على الدال المكسورة ذات الجلجلة والقلقلة إذ أفصحت عما يعتمل في نفسه من مشاعر الخوف والقلق والاضطراب والانكسار والذل وغربة المشاعر وبعد الأهل وترقب الموت , ثم يجيء نغم البسيط فيهدهد هذه المشاعر , كما وجدنا ثقلاً في بعض قوافي القصيدة لعله ثقل الهم الذي كان يحمله الشاعر نرصده في : { الثأد , النضد , أجد , العضد , مفتأد } .
وتسري الموسيقا الداخلية في تضاعيف المعلقة لإحداث التنغيم الداخلي , من ذلك تكرار بعض الحروف مثل حرف : السين الذي يعكس حالة الإعياء والضعف التي يعيشها الشاعر وهو يواجه المتاعب والمصاعب ونجده ماثلاً في البيت الأول : { السند , سالف } والبيت الخامس : { سبيل – يحبسه – السجفين } والبيت التاسع { مستأنس } والبيت الحادي عشر : { سرت – سارية } والبيت السادس عشر : { سفود –نسوه } .
أما العين الذي يجسد إحساس الفجيعة والتجارب العميقة التي يطول فيها نفس الشاعر , ونرصده في البيت الأول : { العلياء – عليها } , والبيت السابع { فعد – عما – لا ارتجاع – على – عيرانة } والبيت الثالث عشر : { عليه – صمع – الكعوب } , والبيت الرابع عشر : { يوزعه – طعن – المعارك عند }وفي البيت العشرون : { النعمان – على – البعد } .
والياء المشبعة والتي تمثل الصراع بين القدرة والعجز أو بين الماضي والحاضر والأسى , كما أن فيها نغماً مديداً باكياً كما في البيت الأول : { يا – ميّة – بالعلياء – عليها } وفي البيت الثاني : { فيها – أصيلاً كي – عيت } وفي البيت الثالث : { أواريّ – لأياً – أبينها – والنؤي }
ونلمح تكرار النون الذي يمثل صرخة الألم والحزن والانكسار , وهو صيحة ممدودة أشبه ما تكون بالنهنهة بالنسبة لحالة البكاء وتكرارها يحمل معنى الرنين والحنين كقوله في البيت الخامس : { كان – السجفين – فالنضد } والبيت التاسع : { كأن – النهار – بنا – مستأنس } والبيت الرابع عشر : { ضمران – منه – طعن عند – النجد } والبيت العشرون : { تبلغني – النعمان – إن – الناس – الأدنى } .
واللام تمثل حالة التماسك والتجلد وعدم الانهيار أمام الشبح القادم ألمحه في البيت الأول : { العلياء – السند طال – عليها – سالف – الأبد } وفي البيت الثالث : { لأياً – والنؤي – الحوض – المظلومة – الجلد } والبيت السادس : { خلاء – أهلها – احتملوا – عليها الذي – لبد } والبيت العشرون : { تلك – النعمان – له – فضلا – على – الناس – الأدنى – البعد } .
والراء تجسد حالة الاضطراب الوجداني التي عاشها الشاعر وهو يواجه الظلم والإبعاد والمصير المجهول , كما في البيت العاشر : { وجرة – أكارعه – المصير – الفرد } , والبيت الحادي عشر : { سرت – سارية – البرد } , البيت الثالث عشر :{ واستمر – الكعوب – بريئات – الحر } والبيت الخامس عشر { الفريصة – بالمدرى – المبيطر }
أما التنوين والتضعيف فإنهما يحدثان نغما صوتيا موسيقيا في البيت , ويعبران عن حالات الأنين والإعياء التي يعيشها الشاعر نتذوقهما في { ميّة – فالسّند – عيّت – الرّبع – أواريّ – أبيّنها – النّؤي – ورفعته إلى السجفين فالنضد } و { أصيلاً – جواباً } { مقذوفة – صريف } .
ويتحقق التنغيم الداخلي عن طريق استخدام الألفاظ الممدودة التي يعبر الشاعر من خلالها عن طول المعاناة وعمق الالتياع , كما في الأبيات الثلاثة الأولى وغيرها .
ويطرد الإيقاع السريع في وصف الناقة ؛ ليجسد حيوية الحركة المصاحبة للتأهب , والانطلاق صوب الوجهة الجديدة , فالناقة لم يتنام جسدها تدريجياً , وإنما هي { مقذوفة } البازل { بدخيس } اللحم كتل متراكمة بعضها فوق بعض حتى إنك لتسمع صوت احتكاكها , كأنه صوت بكرة , يجريها الحبل بجريانه فيزيد في دورانها .
ووفق الشاعر في التعبير عن تجربته حيث استغرق موضوعه جوانبه النفسية فاندمج معه بوجدانه وفكره , وهي تجربة ذاتية عبر فيها – عن معاناته وأحاسيسه ومشاعره – بكل الوسائل التعبيرية والشعورية , فاجتمع فيها صدق الوجدان , وعمق الفكرة , وسمو المعنى مما أكسبها الصدق والحيوية والثبات والاستمرار .
ذاكم هو النابغة الشاعر الذي تبوّأ قمة الشعر في عصره فغدا سيد الشعراء , كما أن تأثيره لم يقف به عند حدود عصره بل تجاوزه إلى غيره من العصور الأخرى بحيث نراه ماثلاً في مدائح الأخطل التغلبي والمتنبي من بعده . وحرر في 2/ 5/ 1437هـ .