نشأنا على مقولة عميد الأدب العربي الأستاذ الدكتور طه حسين: “القاهرة تؤلف، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ”؛ مدينة بغداد إحدى أعرق مدن العالم الإسلامي، بناها الخليقة العباسي أبو جعفر المنصور وأتخذها عاصمة لدولته.
كانت موطنا للعلم والعلماء، وتطورت مع خلفاء بني العباس في جميع مجلات العلوم والمعرفة، وبلغت ذروة مجدها وعصرها الذهبي في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، إذ تحولت بغداد في تلك الفترة إلى عاصمة للعلم والفنون والأدب، والترجمة، فسبقت عصرها وقصدها طلبة العلم من كل بقاع الأرض.
غير أن بين أزقتها وشوارعها عاش قوم منعمون مما جنته عليهم مغانم اللهو، والغناء، والرفاهية، والانشغال بالأدب، والإحاطة بالبلغاء والظرفاء والفصحاء، وقد وجد الكثير من أرباب السخرية والنكتة والضحك دورا متقدما لهم في ظل هذه البيئة الخصبة للحصول على مغانم مثيرة من الخلفاء والولاة وتجار بغداد عاصمة الرشيد. وبزغ من بين هؤلاء أحد مشاهير الأدب الساخر، أو ما يسمى بأدب سرعة البديهة في عصر العباسيين المبكر من القرن الثالث الهجري، وهو أبو عبد الله محمد بن قاسم أبو العيناء، الذي ولد في مدينة البصرة في عام 191هـ، كان أبو العيناء كثير الطموح ويحب مجالسة الخلفاء والولاة والتجار، وكان يوصي ابنه قائلا:” يا بني، إذا أردت أن تكون نادما للخلفاء وذوي المروءة، فعليك بنتف الأشعار ومُلح الأخبار”.
حتى قال فيه الأدباء والمؤرخون إنه كان:” أحدّ الناس خاطراً، وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جوابا، وأبلغهم خطابا” وقد ذكر ذلك الفقيه أبو إسحاق القيرواني، في كتابه بعنوان:” زهر الآداب، وثمر الألباب”.
وقد حكي عن أبي العيناء أنه قال:” حصلت لي ضيقة شديدة فكتمتها عن أهلي وأصدقائي وأقاربي، فدخلت يوما على قاضي القضاة الفقيه يحي بن أكثم، فقال لي:” إن أمير المؤمنين (المأمون) جلس للمظالم وأخذ القصص، فهل لك في الحضور؟ قلت له نعم، فمضيت معه إلى دار أمير المؤمنين، فلما دخلنا عليه أجلسه وأجلسني ثم قال: يا أبا العيناء بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه الساعة” فأنشدته قائلا:
لقد رجوتك دون الناس كلهم
وللرجاء حقوقٌ كلها تَجبُ
إن لم يكن لي أسباب أعيش بها
ففي العلا لك أخلاق هي السبب
فقال أمير المؤمنين:” يا سلامة، أنظر أي شيء في بيت مالنا دون مال المسلمين، فقال: بقية من مال.
قال: فأدفع له مائة ألف درهم وأبعث له بمثلها في كل شهر، فلما كان بعد أحد عشر شهرا توفى الخليفة المأمون، فبكى عليه أبو العيناء حتى تقرحت أجفانه، فدخل عليه بعض أولاده فقال له:” يا أبتاه بعد ذهاب العين ما ذا ينفع البكاء؟ فأنشأ أبو العيناء يقول:
شيئان لو بكت الدماء عليهما
عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما
فقدُ الشباب وفرقة الأحباب