المقالات

العقل البشري في عصر الهيمنة الرقمية

باتت وسائل التواصل الاجتماعي ملاذًا للغالبية العظمى من البشر في كل حين، مما جعلهم يستخدمونها لفترات طويلة قد تصل إلى حد الإدمان. فهي ذات تأثير كبير على عقل الإنسان، إذ توهمه بأنها تمنحه مشاعر إيجابية أثناء استخدامها.

لقد أصبحت السوشيال ميديا أداة خطيرة جدًا من أدوات التلاعب النفسي، سواء بقصد أو بغير قصد. وتزداد خطورتها مع ازدياد استخدامها، حيث تعزز الرغبة في المزيد من التفاعل بسبب المحفزات الفورية التي تبقي المستخدم نشطًا لأطول فترة ممكنة. هذه الوسائل، بتعقيداتها وآلياتها الدقيقة، تعمل على الاحتفاظ بالمستخدمين في تطبيقاتها عبر أدوات مصممة للتلاعب بالعقول، مما يدفع العقل لإعادة تشكيل نفسه. في النهاية، يصبح المستخدم ضحية لها دون أن يشعر، وهو ما يعتبر نوعًا من التعزيز للإدمان، لينتج عنه مشاكل نفسية متفاقمة.

الحقيقة أن هذا الجيل يتعرض لتشويه عقلي وضغط نفسي بشكل طوعي. بل إنه يقدم نفسه – في كثير من الأحيان – فريسة لهذه الوسائل، متنقلًا بينها لتنهش فيه. العقل الطبيعي عندما يتلقى خبرًا، فإن انتهاء الخبر يعطيه إشارة للتوقف الطبيعي، ما يتيح له فرصة للتأمل والتحليل. هذه الطبيعة الفطرية أصبحت اليوم ترفًا من الماضي في ظل التعاقب السريع للأخبار والمقاطع على وسائل مثل تيك توك وفيسبوك وغيرها. هذا التمرير المستمر يجعل الاستهلاك لا نهائيًا، ويضع العقل في حالة تشتت غير مسبوقة بين الأخبار السعيدة والمحزنة والمقاطع المتناقضة، مما يؤدي إلى تبلد في الذهن، وخلل في إدارة المشاعر والتشويش الفكري.

على سبيل المثال، قد تجد نفسك تشاهد موعظة دينية، يليها أغنية عاطفية، ثم مقطع عن حرب وقتلى، وبعدها مشهد فكاهي أو إعلان لوجبة طعام. هذا التدفق المتناقض للمقاطع يجعل المشاعر متضاربة، ويصعب على العقل استيعابها، مما يؤدي في النهاية إلى تفكير سطحي وتراجع القدرة على التفكير التأملي واتخاذ القرارات بشكل منطقي.

لقد هيمنت التقنية الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي على حياة الإنسان اليومية، محولة العالم إلى غرف افتراضية، يجد فيها الإنسان نفسه محاصرًا، بفعل تقنيات مصممة لخلق تجربة إدمانية تحاول إبقاءه ملتصقًا بشاشاتها. وكثيرًا ما نشكو من انخفاض الثقة بالنفس، والعصبية، والقلق، والعزلة، واضطرابات النوم، وتراجع النشاط البدني، وضعف الأداء في العمل أو الدراسة، وصولًا إلى حالات انتحار مفاجئة في أعمار الزهور، نتيجة لهذا التدفق الرقمي اللامتناهي.

إن العقل البشري اليوم على مفترق طرق، وأمام تحديات حتمية تفرض عليه البحث عن توازن رقمي يتيح له الاستمرار في هذا العالم الرقمي دون أن يصبح فريسة سهلة للاستهلاك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى