حين ينساب الليل بوشوشاته، ويُطبق الصمت على الأرواح المتعبة، تظهر تلك الظلال الهائمة في دروب الفراغ، تبحث عن مغزى لوجودها فلا تجد إلا أحكامًا تُصدرها على الآخرين، كما لو كانت تُقيم موازين العدالة في محكمة الدنيا.
في الحارة، تلك الحارة التي تعرف كل شيء ولا تُخفي شيئًا، كان “شوقي أبو الفِضا” نموذجًا متقنًا لهذا “القاضي الفاضي”. رجل لا يشغل وقته إلا بحياة الآخرين. يُراقب من نافذة بيته كل خطوة، يحصي الهمسات بين الأزواج، ويفتش في أعماق الضحكات عن أسرار لا وجود لها. إذا رأى امرأة تعبر الحارة في الصباح، قرر أنها تهرب من سر ما. وإذا عاد رجل متأخرًا في الليل، أشاع أنه يخفي مصيبة.
جلس ذات مساء في قهوة الحاج “سلطان”، تلك القهوة التي هي برلمان الحارة ومسرح أحلامها الصغيرة. قال وهو ينفث دخان الشيشة:
“شفتوا الحاج محمود؟ يشتري ذهبًا لزوجته كل شهر! من أين له هذا؟ أكيد يتاجر في شيء حرام!”
ضحك أحدهم بخبث وقال:
“وأنت، من أين لك الوقت لتُحصي أموال الناس؟”
رد شوقي، وقد انتفخت أوداجه:
“أنا رجل غيور على الحارة وأهلها، لا أسمح بالباطل أن يمر أمامي!”
ولكن الحقيقة التي لم يقلها شوقي أن فراغه كان يعذبه، وأنه وجد في قضاء حياة الآخرين متنفسًا يعوضه عن خواء أيامه.
مرت الأيام، وكما تُعلمنا الدنيا دائمًا، انكشف المستور. فقد أمسك أهل الحارة بشوقي متلبسًا بسرقة صندوق التبرعات في المسجد. حينها، نظر إليه الحاج سلطان وقال جملته الشهيرة التي ظلت ترددها الحارة لسنوات:
“من يملأ وقته بمحاكمة الآخرين، إنما يهرب من مواجهة ذاته”.