مكة المكرمة أشرف البقاع وأفضلها، وخير البلاد وأكرمها، تهفو إليها القلوب، ويتوجه لها المسلمون في صلواتهم. هي موطن العبادة والإنابة، فيها أول بيت وضع للناس، الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا، البلد الأمين الذي يأتيه الخير والرزق استجابةً لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
وليس هناك أبلغ وأوضح في بيان فضائل هذه المدينة المقدسة وبركة جوارها من رسالة الحسن البصري إلى صديقه العالم العابد عبدالرحيم بن أنس الرمادي، حين علم بنيّته مغادرة مكة. أقتبس منها الآتي:
“اغتنمْ يا أخي هذا الخير كله، وإياك أن يفوتك، والسلام”.
بهذه العبارة الحازمة اختتم التابعي الجليل الحسن البصري -رحمه الله- رسالته إلى صديقه العابد الزاهد عبدالرحيم الرمادي.
والتابعي الجليل الحسن البصري هو من هو في العلم والفهم، والعبادة والزهد. أدرك كبار الصحابة، وروى عنهم، وكان -كما قال الإمام الغزالي-: “أشبه الناس كلامًا بكلام الأنبياء، وأقربهم هدًى من الصحابة، غايةً في الفصاحة، تتصبب الحكمة من فيه”.
وقصة هذه الرسالة أن عبدالرحيم بن أنس الرمادي كان من المجاورين بمكة، أولاه الله شرف جوار البيت، فبدا له أن يرتحل عن مكة ويفارقها. فلما علم بذلك صديقه الحسن البصري، انزعج وكتب إليه يقول: “وإني والله كرهت ذلك، وغمني، واستوحشت منه وحشة شديدة، إذ أراد الشيطان أن يزعجك من حرم الله، ويستزلك، فيا عجبًا من عقلك إذ نويت ذلك في نفسك، بعد أن جعلك الله من أهله”.
وجاءت هذه الرسالة العجيبة حافلةً بعشرات النصوص والآثار في فضائل مكة المكرمة، ومزية سكناها، وفضيلة الجوار فيها. حيث بيَّن الحسن البصري أن الله فضَّل مكة على سائر البلاد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صرَّح بحبها لما أُجبر على فراقها وقال: “لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت”.
ومما أورده الحسن البصري أن ما من بلدة وفد إليها جميع النبيين والملائكة والمرسلين أجمعين إلا مكة المكرمة. وأن كل أعمال البرّ فيها تضاعَف بمئة ألف ضعف، وأنه ما على وجه الأرض بقعةٌ غيرها ينزل إليها كل يوم من عند الله عشرون ومئة رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين إلى الكعبة.
وأشار أيضًا إلى أنها أكثرُ بلدةٍ تُجاب فيها الدعوات؛ ففيها جوف الكعبة، والحجر، والمقام، والملتزم، وبئر زمزم، والصفا، والمروة، وعرفة، وكلها مواطن إجابة. كما أوضح أن من مات فيها كان أولى من يشفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يوم القيامة آمنًا من عذاب الله تعالى لا حساب عليه ولا عذاب.
وبعد سلسلة طويلة من الآثار عن فضائل مكة المكرمة، قال الحسن البصري لصاحبه: “فاثبت مكانك، ولا تبرح، وإنك إن تكسب مكسبًا يساوي فلسين من حلال بها، كان خيرًا وأفضل من أن تكسب في غيرها ألفي درهم”.
إنها رسالة عالم عابد إلى عالم عابد، نكتشف من خلالها الكثير عن مكة المكرمة وفضلها، وندرك كم هو شرف أن يكون الإنسان من أهل هذه المدينة المقدسة.