تشكل الأسرة اللبنة الأساسية للمجتمع، وتعد الحبل الرئيس في النسيج الاجتماعي ككل. لهذا، تبرز اللحمة الاجتماعية بالتماسك الأسري وتختفي بالتفكك والشتات. ووفقًا للنظرية الاجتماعية لابن خلدون، تلعب الأسرة دورًا حاسمًا في تنمية المجتمع، حيث يعتمد نموه وتطوره على نمو الأسرة وتطورها. كما رأى ابن خلدون أن الأسرة هي المصدر الأساسي للتماسك الاجتماعي والاستقرار، وأن صحة المجتمع وحيويته تنعكسان على صحة وحيوية الأسرة، وأن قيم ومعتقدات وعادات المجتمع تنتقل من جيل إلى جيل داخل هيكل الأسرة.
ومع التطور الهائل الذي أحدثته ثورة المعلومات وظهور وسائل تقنية للتواصل الاجتماعي، ظهرت مستجدات لم تكن معهودة في ظاهرة التفكك الأسري. فقد نقلت هذه الوسائل أفراد الأسرة، فردًا فردًا، من نظام الأسرة إلى نظام الانكفاء الذاتي، الذي يقود حتمًا إلى التوحد وقطع أواصر التماسك الأسري. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تدخلت هذه الوسائل في عملية تشكيل السلوك، مما قلص من مساحة تدخل الوالدين في التربية والتوجيه. كما أحدثت نقلة في طبيعة القرارات والاختيارات الفردية، بما يقلل من قيمة وأهمية الاستشارات الأسرية.
وفي داخل الأسرة الواحدة، نجد اتساعًا في الفروق الفردية بين أفرادها في كل نواحي التفكير، والأنماط السلوكية، والاختيارات الحياتية، والتعبيرات الذاتية. وانحصرت، تبعًا لذلك، قيم وعادات الأسرة الواحدة، وأصبحت أقرب إلى القيمة الرياضية “لا ينتمي” لكل فرد من أفراد الأسرة. ونظرًا لتسارع التطور التقني، قد تظهر أشكال أكثر تعقيدًا في سلوك الأفراد وطبيعة الأسر، الأمر الذي ينعكس على الشكل العام للمجتمع.
وفي هذا الصدد، أكد ابن خلدون أنه عندما تصبح المجتمعات أكثر تحضرًا، فإنها تصبح أيضًا أكثر تعقيدًا، وهذا التعقيد يمكن أن يؤدي إلى الركود والانحطاط. وفي نهاية المطاف، يمكن أن يؤدي هذا التراجع في النشاط إلى ركود المجتمع ككل، وكأنه يتحدث عن الضعف الرهيب في الدور الاقتصادي والتفاعلي للأسر، الذي ينعكس مباشرة على المجتمع.
ومن هنا، فإن واجب المربين، سواء داخل الأسرة كوالدين أو خارجها كأساتذة ومرشدين وشخصيات مؤثرة اجتماعيًا، يتضاعف تجاه هذه المستجدات في ظاهرة التفكك الأسري. يتطلب ذلك نشر الوعي والتثقيف الموجه نحو حماية مفهوم الأسرة الواحدة وتقليص تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حياة الأسر. وبرغم صعوبة السيطرة على استخدام وسائل التواصل، فإن توجيه استخدامها قد يدعم التماسك الأسري، كما أن تقليص ساعات هذا الاستخدام يوفر الوقت والجهد للاندماج بين أفراد الأسرة، ويولد طاقة إيجابية وشعورًا بقيمة الأسرة والانضواء تحت ظلالها.