منتدى القصة

لماذا؟ .. قصَّة قصيرة

في متاهة الأزقة الضيقة، حيث تمتزج أصداء الحاضر بظلال الماضي، لمحتهُ. واقفًا هناك؛ بظهره المنحني قليلاً وكتفيه المثقلتين بشيء لم أفهمه في البداية. لم أحتج إلى وقت طويل لأتعرف عليه. إنه آدم؛ صديقي الذي لم أره منذ سنوات، والذي عهدته تلقائيًا، عفويًا، مليئًا بالضحكات الكفيلة بإضاءة يومٍ كئيب، بل عمرا مريرًا بأكمله.
وجدته مختلفًا.
اقتربت منه، وأنا أُحاول أن أستعيد في رأسي صورته القديمة: ضحكاته المجلجلة، كلماته السريعة التي تسبق أفكاره، تلك الحماسة التي تجعله وكأنه في سباق دائم مع الحياة. رأيت ذلك وأنا أقترب، لكن الوجه الذي نظر إليّ لم يحمل شيئًا منه.
“مرحبًا!” قلتها بصوتٍ حاولت أن أجعله مرحًا، لكنَّه خرج خافتًا، ربما لأنني شعرت بما سيأتي.
رفع رأسه ببطء، وكأنه يُفتش عن صاحب الصوت في ذاكرته. ثم ابتسم… ابتسامة لم تصل إلى عينيه.
• “أهلًا.”
أتت الكلمة ثقيلة، رسمية.
صمتنا للحظات، صمت لم أعتده معه. هل هذا ليس صديقي الذي كان يستطيع تحويل أبسط الأحاديث إلى مغامرات شيقة؟
• “مرَّ وقت طويل!” قلت، وأنا أبحث عن مدخل يعيدني إليه، أو يعيده إلي.
• “نعم، طويل جدًا.”
تأتي كلماته قصيرة، مقطّرة، وكأنها تحمل وزنًا لا أستطيع رؤيته. حاولت أن أفتح نافذة صغيرة نحو الماضي، أن أسأله عن أيامنا، عن مغامراتنا، عن تلك اللحظات التي كنا فيها نعتقد أن العالم بأسره ينتظرنا. لكنه يستمع فقط، دون أن يضيف شيئًا.
“كيف حالك؟”
ضحك ضحكة صغيرة، بدت متكلفة.
“بخير. ما شي الحال.”
“ماشي؟”
هزتني الكلمة. أين ذلك الشخص الذي كان دائمًا يجد الحياة سباقًا، يتحدى كل شيء، يضحك حتى في وجه الصعوبات؟
أين آدم الذي اعتاد أن يذكرنا بمقولة: “الحياة إما مغامرة قوية أو لا شيء”.
نظرت إليه بتمعن. ملامحه كما هي، لكنها لم تعد تنبض بالحياة. عيناه، اللتان كانتا تشعان بريقًا، أصبحتا مثل نافذتين تطلان على فراغٍ مظلم. يداه، التي دومًا تتحرك بحماسة أثناء الحديث، استقرتا الآن على جانبيه كأنهما لا تعرفان ما تفعلان.
أدركت فجأة ما تغير. لقد نضج. لكنه لم ينضج كالشجرة التي تُثمر، بل كالأغصان التي تلتف حول نفسها بفعل الرياح.
تحدثنا قليلًا؛ حديثا أشبه بمحاولة استعادة أغنية نسينا كلماتها. الآن موجودٌ بجسده، لكن روحه هناك؛ في مكان لا أعرفه!
عندما افترقنا، شعرت بثقل في قلبي، كأن الكلمات التي لم تُقال بيننا قد علقت في صدري. مشيت مبتعدا. ذهني عالق هناك، يحاول استيعاب ما رأيت. تذكرت حينها تغريدة قرأتها يومًا ما، تقول:
“نضجنا… لكن مشوهين.”

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى