المقالات

الباحة منجم معادن و”المعملة” نموذجًا

تشهد المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة نشاطاً كبيراً على جميع الأصعدة، وذلك ضمن الجهود الجبارة التي تبذلها الدولة لتحقيق أهداف الرؤية، ومن ذلك ما قامت به هيئة المساحة الجيولوجية بالمملكة مؤخراً من إطلاق مبادرة رائدة تعتبر الأضخم من نوعها في العالم، والتي تهدف إلى إجراء مسح جيولوجي شامل للدرع العربي حتى عام 2030.
هدف رائع ولا شك يرمي إلى اكتشاف مناطق المعادن وتحديدها والاستفادة منها ضمن الرؤية المستدامة، ومما لا شك فيه أن منطقة الباحة هي إحدى ركائز مناطق الآثار والتعدين ومن تلك المناطق المنوط بها المسح ـ إضافة إلى طبيعتها البكر ـ فهي تزخر بالعديد من الثروات المتنوعة التي تشكل رافداً اقتصادياً لاكتنازها على ثروات معدنية متنوعة، وذلك طبقا لتقارير ودراسات أعدتها وزارة الصناعة والثروة المعدنية.
ومن أبرز خامات المعادن الموجودة في المنطقة الذهب والفضة والنحاس والمنجنيز والكروم والقصدير وأحجار الزينة وغيرها من المعادن والخامات الأخرى، ومن المعلوم أن النشاط التعديني ليس حديثاً بها بل إنه قائم منذ أزمنة قديمة، وهي معروفة بالعديد من المناجم التعدينية التي تستخرج منها المعادن قبل الإسلام، وفي العصرين الاموي والعباسي.
ويذكر الرواة أن بعض العاملين فيها كانوا فئة من خارج المنطقة، وقد تركز النشاط التعديني قديما وحديثاً بتلك الجبال والوديان والحرات التي تقع شمال وشرق إمارة الباحة ضمن محافظتي القرى والعقيق كسلسلة جبال بيدة “مواقع خام الذهب” الواقعة بين وادي وراخ ومعشوقة.
ومن تلك المناجم منجم “منضحة” وقد ذكره ياقوت الحموي، حيث قال: ” مِنْضَحٌ علم منقول من نضحت الماء نضحاً إذا رششته وهو اسم معدن جاهلي بالحجاز عنده جوبة عظيمة يجتمع فيها الماء”. وقد حظي باهتمام الدولة بالبحث والتنقيب، وهذا دليل على أهميته ووفرة المعدن به، وحرة أم الجنادل (الجبال السود) الواقعة شمال قريتي محوية ومنحل، ومعدن شعب الطير في بيدة، وأم الخبث أو ذات الحقة في جبال الوداف في الطريق المؤدي إلى بيدة، حيث توجد بقايا آثار التعدين عبارة عن أكوام من الخبث والحجارة، وحولها قرية قديمة جداً يبدو أنها بنيت لسكن العاملين فيها.
بالإضافة إلى مناجم أخرى في أماكن متفرقة منها، كمعدن الصفر بالمشايعة، ومنجمي ركبة الخبش والحازم في شبرقة، ومنجم شعب شعيفة في الحكمان، وأماكن تعدينية أخرى.
أما عن مناجم حرة نجد العقيق ـ وهي مرتكز المقال ومقصده ـ فقد كانت تعرف قديماً بحرة بني هلال، وقد أسماها الهمداني حرة نجد، فهي عبارة عن معادن وحمم سائلة تلقي بها اللابة من جوف الأرض إلى السطح، وتلك الحرات تشكلت وأصبحت عبر ملايين السنين جزءاً من التضاريس التي تفصل بين نجد والحجاز.
وقد ذكرها الأشجعي، حيث قال: “حرات العرب أولها حرة بني هلال وهي منبتلة عن الحرار برنية من حجاز النجد المتيامن” .. وقال: “حرة نجد بن هلال معترضة من أسفل سقف الطود إلى مهب الشمال “، وهي واسعة المساحة تشمل حرة البقوم وحرة سبيع وحرة بادية غامد الواقعة جهة العقيق، وقد سكنها بنو زهير بن الضباب وبنو هلال بن عامر، حيث كانوا يحلون بقرب العقيق في وادي كراء وما حوله، ويبدو أن ذلك قبل نزوح غامد من سراتهم إلى هذا الوادي.
وبالنسبة لوادي كراء فقد ذكره هارون بن زكريا الهجري المتوفي سنة 300هـ: ” كراء: وادٍ رغيب في علياء دار بني هلال، يفلق الحرة، دونه منها أربعة أميال، ووراءه مثلها، وهو كثير النخل جداً، ليس بينه وبين الطائف إلا ليلتان، يطؤه حاج اليمن، وبينه وبين تبالة ثلاث مراحل، وبينه وبين مكة خمس مراحل . وهو لبني زهير من الضباب وكانت بنو هلال يهتضمون أهله ويسيئون جوارهم حتى جمعت لهم الضباب بالحمى فغزوهم وكان لهم حديث ” ووادي كراء من روافد وادي تربة ومن أهم وأطول الأودية وقد تردد اسمه في الأشعار وضمن مراحل الطريق
وقد وصف الهمداني كراء: “وادٍ في الحرة عميق فيه نخل وماء ينزل إليه بعقبة ويصعد عنه بأخرى وأورد في ذكره قول الراجز:
أحرة نجد لا سقيت المطرا…من الكراعين إلى وادي كراء
ومسمى الكراعين يطلق على أطراف الحرة المستطيلة

أما عن منجم “المعملة” ويطلق عليه معدن الوفرة فهو من المعادن المشهورة في جزيرة العرب التي تهدف إلى التعرف على الجوانب التاريخية للمواقع الأثرية بالمملكة، حيث يقع في وادي لغبة على طريق الحج والتجارة السروي المعروف بدرب الفيل، وهو يشبه إلى حد ما منجم عشم من حيث النشأة والمساحة، وموقعه على طريق الحج التهامي وأيضاً يشبه منجم العبلاء من حيث اشتراكهما في التعدين، ويذكر أن منجم المعملة كان من أغنى معادن النحاس التي أثرت الحركة التجارية في العصرين العباسي الأول والثاني
وتنتشر حول منجم “المعملة” عدد من المنشآت القديمة وأطلال مبان لقرية سكنية تفردت بطراز معماري، تدل عليه تلك البقايا واللقى الأثرية، كما زادت أهمية المعملة كونها على طريق الحج والتجارة، ويتكون من مجموعة من الوحدات ذات مساحات مختلفة بني بعضها بالحجر والبعض بالآجر الطيني، وقد أسفرت أعمال التنقيب فيه عن مجموعة من الاكتشافات الأثرية، تشمل أجزاءً لأواني فخارية وزجاجية وحجرية، ومجموعة من الرحي التي تستخدم لطحن المعدن، وافران لصهره ومعالجته، وتلك المعادن كانت تستخرج من الأماكن المجاورة، وقد ذكره البكري بقوله: “المعمل موضع من تربة وهو المعمل الذي يعمل فيه هناك” … وكذلك ما قاله الهمداني حول المعملة : “أن تربة وادٍ عظيم واسع ويقع بقربه من المعادن التي لا تزال آثارها باقية ومنها معدن المعملة”
ولأهميتها جاء ذكرها في العديد من المصادر وربطوها بتربة ربما لكونها الأشهر، وتقع ضمن نطاق حرة بني هلال، وقد تكرر ذكر بعض أسماء هذه المواضع بين تربة والعقيق مثل وادي الحشرج، ذكره مترك السبيعي في كتابه “تربة” على أنه من مواضع في ادي تربة، وذكره حمد الجاسر في العقيق “بادية غامد” في شعر رجل من طيء يصف برودة ماء الحشرج، حيث قال:
بعيش أخي ونعمة والدي… لأنبهن الحي إن لم تخرجِ
فخرجت خيفة قولها، فتبسمت…فعلمت أن يمينها لم تلججِ
فلثمت فاهاً قابضا بقرونها… شُرْب النزيف ببرد ماء الحشرج
والمعمل لغة اسم مكان على وزن مفعل، وهو من فئة المشتقات اللغوية الثمانية، ويدل على مكان تقام فيه أعمال ربما تكرر ذكرها
والحديث عن العقيق ذو أهمية بمكان إذ أنه مكمن الذهب ومن أكثر المواقع في الدرع العربي التي تحتوى على عدد من المناجم والمستوطنات التعدينية، والتي منها جبل القهاب وشعب الأنجل وموقع أم الرحي، ويذكر الهمداني في أسباب تسميته بالعقيق لأنه معدن يعق الذهب، ويأتي أيضا معنى العَقيق: حَجر كريم أحمر يعمل منه الفصوص ، ويظهر أنه الذي ورد فيه الحديث أخبرنا أبا رهيمة السمعي وأبا نخيله اللهبي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبر من العقيق وكتب لنا كتاباً وقال فيه (من وجد شيئاً فهو له والخمس من الركاز، والركاز من كل أربعين ديناراً دينار).
ويحمل هذا الاسم سبعة مواضع “أعقة”، وهي العقيق الممتد بين الطائف والمدينة، وعقيق اليمامة، وعقيق تمرة بوادي الدواسر، وعقيق القناء، وعقيق البصرة، وعقيق غامد.
وقد ورد ذكر العقيق في المعاجم، وأيضاً في الشعر بكثرة، مما يصعب تمييز هذه الأعقة، وما يهمنا منها هنا هو العقيق الذي في نجد غامد، ولقد ورد ذكرها في المصادر وكتب السيرة منذ العصر الجاهلي.
ولم تحدد أهي كانت وادٍ أو قرية أو معدن، وقد جاء ذكر العقيق في سيرة الصحابي “أبو ظبيان الأعرج الغامدي”، في كتاب الاشتقاق لابن دريد، حيث ذكر أن أبا ظبيان واسمه عبد شمس بن الحارث، كان فارسًا وشاعرًا، وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء، وكان كثير الغارة.
وكان أبو ظبيان مضطجعاً “بالعقيق” فلم ينبهه إلا “حُصيدة القحافي” من خثعم يقود جيشًا، وقوم أبو ظبيان بهضبة الأمعز، فركب فرسه ولم يأت قومه، ولم يعرج حتى طعن حُصيدة فقتله.
وذكر العقيق حديثاً الكاتب موريس تايمز، في كتابة رحلة في بلاد العرب، الحملة المصرية على عسير عام 1249هـ، أنه عندما كان بالعقيق واجه ثلاثين منزلاً نصفها مبني بالحجارة، والنصف الآخر بني بالآجر الطيني وقال عنهم الرحالة “كيناهان كرنسواليس” في مذكراته عسير قبل الحرب العالمية الأولى: “بادية غامد هم آل سيار، وهم أغنياء بالخيول والجمال، ومحاربون ممتازون ، إضافة إلى بادية قبيلة بني كبير، وبني سيد وهي قبيلة قديمة كانت لهم سيادة وجبروت ونفوذ في بادية غامد، لهم روضة “حمى” تحمل اسمهم لا توطأ أرضها ولا يصاد صيدها”.
ومحافظة العقيق حالياً هي حاضرة بادية غامد، ويسكنها العديد من القبائل، أشهرها بنو طلق الزهران والحلة وآل سيار.
وتعد محافظة العقيق القلب النابض لما حولها، وهي من أكبر محافظات المنطقة وأكثرها عدداً، ويعول عليها أبناء المنطقة، أنها ستكون المكان المميز والواجهة الحضارية والاستثمارية والسياحية، كونها تحتضن المطار والجامعة والكلية التقنية، إلى جانب أن أرضها زراعية، يمكن استثمار عدد من المشروعات المتنوعة لخصوبتها وغزارة مياهها ومناهلها، وكثرة السدود والأودية بها، حتى أنها كانت في يوم من الأيام مصدراً للغذاء والماء داخل المنطقة وخارجها، وكانت تعد مصدرًا للتمور، وأجود انواع حطب القرض الذي كانت تصدره لمكة وغيرها، ولأنها غنية بمواردها وآثارها وثرواتها إضافة لاستراتيجية موقعها على طرق الحج والتجارة، حظيت بأهمية بحثية ومسحية قديماً وحديثاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى