المقالات

نساء خالدات.. فاطمة بنت عائض آل عائض خنساء الجزيرة العربية

فاطمة بنت عائض آل عائض المغيدي العسيري المعروفة ب”الفارسة التي زلزلت الأتراك” هي أميرة وشاعرة وفارسة عربية، تعدّ من أشهر الشخصيات النسائية العربية التاريخية المقاومة للدولة العثمانية في تاريخ منطقه عسير. ولدت في قرية الريدة عام 1824م/ 1239 هـ بمنطقة عسير، وترعرعت فيها، وهي تنتسب إلى قبيلة عسير المعروفة في جنوب غرب المملكة العربية السعودية، توفيت أمها وهي طفلة، فتربّت في كنف والدها الشيخ عائض بن مرعي، الذي علّمها أصول الدين، كما علّمها ممارسة الفنون الحربية ضدّ المحتل التركي لمنطقة عسير، الذي ما لبث أن استشهد في إحدى المعارك ضد المحتل سنة1856 م، فحملت فاطمة السيف، وركبت الخيل، وحاربت الأتراك.
عرف عن فاطمة بنت عائض آل عائض تمسّكها بدينها، وغلب على حياتها الزهد والتنسّك، وأدركت بفطنتها ما يدور حولها، وما يجري لوطنها عسير من محنٍ وصراعات دموية بسبب احتلال الأتراك لأرضها. وكانت مصيبتها الكبرى رؤيتها مقتل والدها في إحدى المعارك الحربيّة ضد الأتراك عام 1272هـ، فثارت منها كلّ ثائرة، وشعرت بأن حبّ أرضها، وعشقها لوطنها، يُحتّم عليها حمل السلاح والتدريب. وقررت أن تقود مقاومة بطولية ضد المحتلين، فقامت بمضايقة الأتراك وجندهم من خلال شنّ الهجمات عليهم ليلًا نهارًا، تعبيرًا عن رفضها لوجودهم في بلادها، ممّا دفع الأتراك لوضع خطط للقبض عليها.
قادت فاطمة المقاومة بضراوةٍ عنيفة، فكانت المرأة الوحيدة التي ركبت الخيل، ورفعت السلاح بوجه الأعداء، وحاربت بين صفوف المقاتلين. ثأرا لوالدها، ودفاعًا عن أرضها، فوقعت عدة معارك بين آل عائض والأتراك، كانت فاطمة خلالها المرأة الوحيدة المشاركة فيه، والذي راح ضحيته شقيقاها محمد وسعد، وظلّت تحارب والسيف بيدها ولم تستسلم، وسطّرت ببطولتها صفحة خالدةّ من صفحات التاريخ حتّى وقعت بكمينٍ دُبّر لها، فأسروها وأخذوها مكبلة اليدين إلى إسطنبول مع أشقائها أحمد ويحيى وعلي وعبدالرحمن وسعيد ومع من سبق من وجهاء وأسرى عسير، وأخذت معها ابنة أخيها سعاد التي أصبحت يتيمة بعد مقتل والدها في تلك المعركة، فكانت الأميرة فاطمة بنت عائض نِعم الخلف لأخيها في تربية ابنته وتعليمها وتوجيهها، وقد أثّر ذلك في شخصيتها تأثيراً كبيراًـ ولأنّ للشجاعة سلاحين: السيف واللسان، فقد كتبت الأميرة فاطمة في منفاها أجود الأبيات الشعرية التي تعبق بمشاعر الحنين إلى الوطن، والدعوة إلى التحلي بالصبر.. فمن قصائدها التي تناقلتها المراجع التاريخية هذا المقطع:

إذا تمـادى الشــرّ ويــل لأمـــةٍ تعيـــش بليــلٍ لا يجــول بـــه نجـــمُ
وهيهات أن تحظى بنصرٍ وإنما ترى النحس يحدو ركبه الضيق والغمُّ
وبقيت بالأسر حتى وفاتها عام ١٨٧٩م، وقامت فاطمة بكتابة نسخة من المصحف الشريف بخطّ يدها، وأرسلته إلى السلطان محمود الثاني، وقدّمت له بكتابة عبارة مؤثرة، ولمّا اطلع السلطان على المصحف وقرأ العبارة المكتوبة، تأثّر تأثّراً شديداً، وأمر بإطلاق سراحها والعفو عنها وعن أشقائها وابنة أخيها وجميع الأسرى ممن كانوا معها. ولمّا جاء الرسول من قبل السلطان إلى السجن لإبلاغها بأمر العفو، وجدها قد فارقت الحياة، والمصحف بيدها لم يجف حبره بعد -حسبما أفادت به مصادر تاريخية- ودفنت الأميرة فاطمة في إسطنبول، بعد أن سطرت أروع الأمجاد، مؤثرة ميتة العزّ على حياة الذل، وذُكر في رواية تاريخية أخرى أنّها عادت إلى عسير بعد أن مكثت في الأسر 6 سنوات، وأثناء أسرها كتبت المصحف بخطّ يدها، وتزوجت من ابن عمها الأمير علي بن محمد آل عائض، وقدّمت له المصحف في ليلة زفافها هدية، وتوفيت عام 1338..

وفي عام 2019 قدّم الشيخ يحيى بن عبد الله آل عائض هديةَ أسرة آل عائض لأمير منطقة عسير سمو الأمير تركي بن طلال، وهي “مصحف الأميرة فاطمة آل عائض”، الذي كتبته بخط يدها أثناء وجودها في المنفى، واطلع الأمير على صفحات المصحف المكوّنة من 800 صفحة. وقال: إن “من أجمل الفقرات في هذا اللقاء تكريم الأبناء، والأعظم من ذلك المصحف الكريم من امرأة قدوة للنساء، وأحسب أنّها من النساء الخالدات بأمر الله تعالى، وهذا له مكانة كبيرة عندي؛ لأنني أعرف مدى قيمته عندكم، وعند الله أولاً، وقيمة المصحف الذي اعتنت به، والعزيز عليكم عزيز علينا”.
وأقترح من هذا المنبر -ونحن على أعتاب الاحتفال بيوم التأسيس المجيد للدولة السعودية- البحث والتنقيب في التاريخ الحديث عن شخصيات نسائية سعودية عظيمة مغمورة، عن أسماء نساء ساهمن بكتابة تاريخ الجزيرة العربية بمداد من نور، وأن يلعب التعليم دوره في تسليط الضوء عليهنّ، كما أدعو الى إطلاق أسمائهن على الشوارع الرئيسة في المدن الكبرى والمدارس ودور الرعاية، بل والمستشفيات- وليس فقط دور تحفيظ القرآن الكريم- تخليدًا لذكراهن وصدقة جارية لهن.

إنّ هذه المبادرة الوطنية مهمة؛ لأنّها ستروي للأجيال قصصًا عن إنجازات وبطولات وقصص وروايات كانت مخبوءة، وسوف تترك أثرًا بارزًا وبصمات لن تزول بمشيئة الله؛ لأنّها دروس في الحكمة والشهامة والسياسة والدين والصلاح والكرم والعلم، ويمكن القول إن مشاركتهن لم تقلّ عن مشاركة أقرانهن من الرجال الأفذاذ الذين ولدوا من أرحام حرّة أبية قوية لا تقبل الذلّ ولا الهوان. وأقول لفتياتنا في هذه البلاد المباركة: هذا تاريخ نساء هذا البلد العظيم، إنّه تاريخ مشرّف، وسيرة عطرة لا يغرّنكنّ الذكر المزيف والصيت الكاذب لمؤثّرات التواصل الاجتماعي بمحتواهنّ السطحيّ، ففي تاريخ أمثال فاطمة آل عايض الكثير من العبر والدروس.

أ.د. أماني خلف الغامدي

جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى