من قال إن مكة… ستستعمل الذكاء الاصطناعي؟ هذه المدينة التي حفظت قدسيتها عبر العصور وظلت مركزًا للروحانية ومقصدًا للمؤمنين، كيف لها أن تنفتح على التقنية الحديثة فتجعل من الذكاء الاصطناعي شريكًا في خدمة ضيوف الرحمن؟ لكن مكة، كما كانت دائمًا، تتجاوز التوقعات، وتمضي في طريق يزاوج بين الأصالة والتجديد، بين قدسية المكان ومتطلبات العصر. فما نشهده اليوم من تسخير للذكاء الاصطناعي في خدمة الحجاج والمعتمرين ليس إلا امتدادًا لروح الاجتهاد والابتكار التي ميزت هذه البقعة المباركة عبر التاريخ، حين كان السقاية والرفادة شرفًا وواجبًا، وحين تطورت أساليب التنظيم والراحة بما يليق بالمكان والزمان.
إن تدشين “روبوت منارة” في المسجد الحرام، بإشراف الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، يمثل خطوة متقدمة في مسار التحولات الرقمية التي يشهدها الحرمين الشريفين، حيث بات الذكاء الاصطناعي أداة لتيسير رحلة الإيمان، وجسرًا يصل بين الملايين من المسلمين والعلوم الشرعية والإرشادية، دون حواجز لغوية أو مكانية. فلم يعد السائل في المسجد الحرام بحاجة إلى البحث عن عالم أو مرشد، ولم تعد المسافات ولا الزحام عائقًا أمام المعرفة، فقد صار الروبوت حاضرًا بذكائه، مبرمجًا ليلبي احتياجات الزائرين، يجيب بدقة وسرعة، وينقل رسالة الحرمين إلى العالم بعدة لغات، ليكون أكثر من مجرد جهاز إلكتروني، بل حلقة وصل بين الفقه والتكنولوجيا، بين الإنسان والآلة في خدمة الإيمان.
مكة، التي لم تتوقف يومًا عن تطوير وسائل خدمة الحجاج والمعتمرين، تدخل الآن عهدًا جديدًا تجعل فيه الذكاء الاصطناعي جزءًا من تجربتها الروحانية والتنظيمية. ومع توسع رقعة الخدمات الذكية، نجد أن المشهد يتغير، حيث لم يعد التحول الرقمي رفاهية، بل أصبح ضرورة تتماشى مع الأعداد المليونية للقاصدين، ومع الحاجة إلى رفع مستوى الكفاءة والدقة، دون المساس بجوهر التجربة الدينية. فرسالة الحرمين الشريفين التي قامت على الوسطية والاعتدال، لم تعد حكرًا على من يصل إلى رحابهما، بل أصبحت تصل إلى العالم بلغات عدة، مستندة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تسهم في نشر المعرفة الشرعية، وتعزيز تجربة الحاج والمعتمر.
لم تعد مكة تكتفي بكونها ملتقى القلوب المؤمنة، بل أصبحت أيضًا نموذجًا في كيفية توظيف التكنولوجيا لخدمة الإنسان، بعيدًا عن التعقيد والتشويش، بحيث يكون الذكاء الاصطناعي أداة تمكين لا عنصر هيمنة. وربما ما يثير الدهشة أن هذا التطور لم يأتِ على حساب روحانية المكان، بل عززها، فكما كانت مكة عبر التاريخ مركزًا للعلم والمعرفة، ها هي اليوم تحتضن أحدث ما توصل إليه العقل البشري، لا لتغير هويتها، بل لتجعلها أكثر احتواءً واستيعابًا لمتطلبات الحاضر والمستقبل. ففي كل عصر كانت مكة تستجيب للتحديات بمرونة الحكمة وبصيرة الإيمان، واليوم تثبت مجددًا أن التقنية ليست نقيضًا للروحانية، بل يمكنها أن تكون وسيلة لتعزيزها، حين تُوظَّف لخدمة القيم، وحين يصبح الذكاء الاصطناعي امتدادًا لرسالة بدأها البشر وساروا بها عبر الزمن، ليحملها الآن عقل رقمي، لكنه لا يزال، في جوهره، خادمًا لضيوف الرحمن.