المقالات

في ذكرى بيعة ولاية العهد الثامنة … تحولات سريعة ونمو اقتصادي وتفرد نظام سياسي

تميزت الدولة السعودية منذ تأسيسها قبل 3 قرون بأصالة نظامها السياسي النابع من جذور تاريخية وعمق إسلامي، وتراث وبيئة عربية نقية، فجذوره التاريخية تمتد إلى تأسيس إمارة الدرعية قبل قرابة 6 قرون باعتبارها الوريثة الشرعية للحضارة العربية الإسلامية، وهي الوحيدة التي استطاعت توحيد الجزيرة العربية تحت حكم عربي مستقل بعد أكثر من عشرة قرون من التفرق والشتات، فعقد الخلافة الراشدة لم ينفك إلا بعد أن تفرق الناس في شأن الحكم بعد مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، وعندما آل الحكم لبني أمية تحققت عوامل الاستقرار، ما جعلها عصرا ذهبيا في التاريخ الإسلامي، فالحكم الراسخ أساسه الاستقرار، والاستقرار معول القوة والتنمية والتقدم.
لذلك اهتمت الدولة السعودية بإعادة مركزية الحكم العربي إلى جزيرة العرب قلب العرب والمسلمين، وهو حلم عربي بعد طول غياب، بالتفاف شعبي ليس له مثيل لأنهم أدركوا قيمة الوحدة، جعلهم يحرصون على مبايعة آل سعود الذين نجحوا في جمع الشتات والتفرق تحت راية واحدة، لتكون البيعة أحد أهم أركان العقد الاجتماعي السعودي، وفق مفهوم الحكم الرشيد، وهو مصطلح جوهر النظام الإسلامي، والذي ارتبط بتراثنا الإسلامي منذ عهد دولة الخلفاء الراشدين بل هو ميراث النبوة والقيم العربية الأصيلة في جزيرة العرب، يعد نموذجا يقابل نموذج الديمقراطية الغربية التي فشل تطبيقها في الدول النامية لأنها كانت نظاما مستوردا، وليس لديه جذور في تلك الدول، أو لا يتناسب مع ظروف تلك الدول تحولت فقط إلى ديمقراطية انتخاب الصناديق، رغم ان الناس متساوون، ولكن الأفراد ليسوا متساوين، وتلك سنة الخلق، ( ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا ) ومحاولة الديمقراطية جعلهم متساوون في الحقوق وهم من الأوهام، وأن يعطى كل فرد حق الانتخاب نفسها التي تعطى للخبراء والمتخصصين، هي من أكبر أخطاء نموذج الديمقراطية الغربية.
نموذج الديمقراطية على غرار الاشتراكية التي تمتاز بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والإدارة التعاونية للاقتصاد، مما تسبب هذا النموذج في غياب المنافسة والابتكار، مبكرا ثبت فشل نموذج الاشتراكية فيما يطبق في النظام الإسلامي وقت الأزمات والطوارئ كما امتدح الرسول صلى الله عليه وسلم الأشعريين حينما وزعوا الطعام بينهم بالتساوي في زمن المجاعة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم أنا منهم وهم مني.
فالعقد الاجتماعي السعودي مستوحى من العقد الاجتماعي الإسلامي كما في معاهدة المدينة التي وقعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع جميع مكونات المدينة المنورة أسست المعاهدة للعيش والحقوق والدفاع المشترك، ويعتمد في ممارسته على أهل الحل والعقد من أصحاب الكفاءات والقدرات والمتخصصين في شتى المجالات.
والعقد الاجتماعي هو إحدى نظريات نشوء الدول التي تعني أن نظام الدولة السياسي يستمد شرعيته منه، بهذا العقد التزمت به الدولة السعودية منذ نشأتها وأصبح شرعية دستورية، كما أوضح ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان لمجلة الأتلانتيك الأميركية حول العقد الاجتماعي ونظام الحكم السعودي والديمقراطية وغيرها بقوله ( جميع الدول في العالم قائمة على معتقدات، فعلى سبيل المثال، أميركا قائمة على أساس المعتقدات التالية: الديمقراطية، والحرية، والاقتصاد الحر، وغيرها، والشعب يكون متحدا بناء على هذه المعتقدات، فإذا طرحت السؤال التالي: هل جميع الديمقراطيات جيدة؟ وهل جميع الديمقراطيات مجدية؟ بالتأكيد لا، إن دولتنا قائمة على الإسلام، وعلى الثقافة القبلية، وثقافة المنطقة، وثقافة البلد، والثقافة العربية، والثقافة السعودية، وعلى معتقداتها، وهذه هي روحنا، وإذا تخلصنا منها، فإن هذا الأمر يعني أن البلد سينهار، وأثناء اللقاء أوضح أيضا أننا لن نقلل من معتقداتنا لأنها تمثل روحنا، فالمسجد الحرام يوجد في السعودية، ولا يمكن لأحد أن يزيله، لذا فإننا بلا أدنى شك لدينا مسؤولية مستمرة إلى الأبد تجاه المسجد الحرام، وأكد في لقائه أن السعودية دولة ملكية أقيمت وتأسست على هذا النموذج، ولقد أخبرتكم أنه تحت هذه الملكية هناك نظام معقد يتكون من أنظمة قبلية من شيوخ قبائل ورؤساء مراكز وهجر، إنني لا أستطيع تغيير السعودية من ملكية إلى نظام مختلف، وذلك لأن الأمر مرتبط بملكية قائمة منذ ثلاثمائة سنة، وقد عاشت هذه الأنظمة القبلية والحضرية التي يصل عددها 1000 بهذا الأسلوب طيلة السنوات الماضية، وكانوا جزءا من استمرار السعودية دولة ملكية، طبعا اعتبر الديمقراطية جذابة وكذلك الملكية الدستورية جذابة، لكن الأمر يعتمد على المكان والطريقة والخلفية.
تميز العقد الاجتماعي السعودي بالديناميكية في العلاقات بين المكونات المجتمعية فيما بينها من جهة، وفي علاقتها مع السلطة من جهة أخرى، فهو عقد تشاركي تكافلي يتجاوز الشق النفعي، وهو ما يميز تماسك الشعب بالقيادة يسمى بالأمن الوطني والصمود في مجابهة التحديات الداخلية والخارجية، وهو نظام قادر على انجاب القادة الاستثنائيين، يقول الملك عبد العزيز رحمه الله ( سأجعل منكم شعبا عظيما، وستتمتعون برفاهية هي أكبر كثيرا من تلك التي عرفها أجدادكم)، ومن كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان أمد الله في عمره ( اذكروا أن بلادكم أقدس بلاد العالم، وأنها قبلة المسلمين، وأنها منطلق الرسالة، وأن هذه الجزيرة التيي تشكل المملكة الجزء الأكبر منها هي منطلق العروبة في كل مكان من العالم، فلهذا فإن كل مواطن في بلده لوطنه عليه حق) ومن أقواله حفظه الله ( إن الأمن نعمة عظيمة وهو الأساس في رخاء الشعوب واستقرارها وعلى الدوام أظهر المواطن السعودي استشعارا كبيرا للمسؤولية وشكل من قيادته وحكومته سدا منيعا أمام الحاقدين والطامعين) ومن أقوال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ( همة السعوديين مثل جبل طويق ولن ننكسر، سنخفف الإجراءات البيروقراطية الطويلة، سنوسع دائرة الخدمات الإلكترونية، سنعتمد الشفافية والمحاسبة الفورية) ومن كلماته حفظه الله ( نحن لا نحلم، نحن نفكر في واقع سوف يتحقق إن شاء الله، فكل عناصر النجاح موجودة لخلق شيء عظيم وشئ جديد، وأهم عنصر لدينا هو الشعب السعودي، ورغبة وإرادة الشعب السعودي) أيضا من أقواله ( دائما م اتبدأ قصص النجاح برؤية، وأنجح الرؤى هي تلك التي تبنى على مكامن القوة، لن ننظر إلى ما قد فقدناه أو نفقده ،بالأمس أو اليوم، بل علينا أن نتوجه دوما إلى الأمام ) ( لدينا عقليات سعودية مبهرة ورائعة جدا، خاصة في جيل الشباب، طاقة قوية شجاعة، ثقافة عالية، احترافية جيدة وقوية جدا، ويبقى فقط العمل، وطموحنا سوف يبتلع هذه المشاكل سواء بطالة أو إسكانا أو غيرها من المشاكل ).
فنظام الحكم السعودي يتميز بالمرونة والقدرة على احتواء التحديات، وبالفعل أثبتت الدولة السعودية قدرتها على امتصاص الصدمات ومواجهة التحديات والتعامل السريع معها، لأن السعوديون أمنوا بمشروع الوحدة، وورثوا أبناءهم ذلك الإيمان، فكل جيل يزداد قناعة بأهمية تلك الوحدة والالتفاف حول القيادة، ودعم متطلباتها، وعلى رأسها دعم رؤية المملكة 2030 التي يقودها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان القائد الاستثنائي لنقل السعودية إلى مصاف الدول المتقدمة، وهي تجربة تحديثية عميقة ذات أفق واسع منفتح ليس لها حدود تراجع وتجدد ذاتها تلقائيا، خصوصا بعدما شاهدوا سقوط دول وحرائق من حولهم في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن ودول عديدة.
ومن هنا جاء إطلاق مفهوم الحكم الرشيد من قبل المنظمات الدولية بعدما درست وتتبعت واقع العقد الاجتماعي السعودي والذي يتقاطع مع مبادئ الحكم في الإسلام، لكنه يختلف عنها بتطور آلياته ومعاييره ومؤشرات قياس أدائه الذي يحترم خصوصية وتجربة كل مجتمع إنساني دون فرض نموذجه كما هو لن يقبل أحد أن يفرض نموذجه عليه خصوصا وأنه منطلق الرسالة وفيه الحرمين الشريفين ومقصد وقبلة للمسلمين يتوجهون في الصلاة إليها من جميع أنحاء العالم ويفدون إليها في الحج والعمرة.
ما شهدته الأعوام الثمانية امر مذهل بكل المقاييس، ليس فقط من جهة المنجز السياسي والاقتصادي والاجتماعي المهول بل والإقليمي والعالمي وتعزيز مكانة السعودية كمركز لوجستي عالمي وتم إطلاق مشاريع ضخمة تهدف إلى تحقيق تنمية مستدامة وخلق مدن جديدة ذات مواقع استراتيجية وإطلالات بحرية رائعة، مثل مشروع نيوم والبحر الأحمر، هذه المشاريع تهدف إلى جذب الاستثمار الأجنبي، كان لسموه دور كبير في الإصلاحات الاجتماعية، تستمر السعودية في رحلتها نحو تحقيق رؤية المملكة 2030 مما يضعها على طريق التحول دولة اكثر تنوعا واستدامة، وهي ليست فقط رؤية اقتصادية بل إعادة تعريف لعظمة الوطن ليكون أحد القوى المؤثرة في العالم.
والسعودية منذ تأسيسها قوة خير لكل ما فيه صالح البشرية ورخاء الإنسان حول العالم، إذ عملت ولا تزال تعمل على إعلاء مبدأ التعاون، وتوطيد العمل الدولي المشترك نحو كل مجهود يخدم التنمية والازدهار لجميع دول العالم، وعلاقات السعودية المتوازنة ورقتها لحل الأزمات الدولية، أبرزها نجاحها في احتضان مباحثات واشنطن وموسكو يعزز الدور الدبلوماسي للسعودية، في خطوة مذهلة تشكل نقطة تحول في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، تجد السعودية نفسها في قلب نشاط دبلوماسي عالمي يعزز مكانتها ويمنحها زخما دبلوماسيا قويا ينعكس على ملفات كثيرة في المنطقة.

• أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة ام القرى سابق

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى