«زاوية منفرجة»
نزلت حلبة مصارعة الغرب مسلحا بثقافتي العرنوبية(العربية-النوبية، في سبعينات القرن الماضي، عندما ابتعثتني وزارة التربية السودانية الى لندن، لدراسة استخدام التلفزيون في مجال التعليم، وكانت لندن وقتها بمثابة فردوس مجهول عند معظم العرب، ولم تكن بالمدينة مناطق عربية محررة، كما هو واقع اليوم في مناطق بيزووترولانكستر غيت وشارع ادجوير، ومن ثم لم تكن هناك مطاعم تبيع الشاورما والكفتة والفلافل والحمص، أو مقاه تقدم الشيشة
صادمت الحضارة الغربية أول الأمر، فور النزول في مطار هيثرو، فقد فوجئت بأن الصالة التي دخلناها فور مغادرة الطائرة، صارت شبه خالية من المسافرين، الذين صعدوا الى طبقة أعلى بسلم متحرك، لم يسبق لي ان رأيت نظيره حتى في فيلم سينمائي، وقطعت داخل المطار مسافة يجوز فيها قصر الصلاة، للعثور على وسيلة آمنة تصعد بي إلى أعلى، ولكن هيهات، وعدت الى قبالة السلم الأفعواني ذاك، ووجدت سيدة سودانية كانت مترددة مثلي في استخدامه، تتجه نحوه ولسان حالها يقول “لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، فقلت لنفسي: ما يصير يا أبو الجعافر تكون جبان، وأنت تزعم انك حفيد عنترة وتتباهي بأن أباك (عباس) فاز بالاسم بحكم الانتساب الى قبيلة بني عبس، كفلاء عنترة عندما أتاهم خبيرا عسكريا، وسرت خلف تلك السيدة، التي وضعت قدمها على أول درجة في السلم وترنحت ثم تماسكت بعض الشيء، وفعلت الأمر نفسه، وإن أعاق إمساكي بحافة السلم، كيس به بعض حبات المانجو، كلفني أحد أصدقائي بتوصيله الى قريب له يعيش في لندن، وفجأة ترنحت تلك السيدة، وخشيت ان اتعرض للدهس، وحاولت الإمساك بحافة السلم بكلتا يدي، فإذا بحبات المانجو تندفع خارجة من الكيس وتتدحرج، ثم شممت رائحتها، وأدركت عندها انها تعرضت للعصر بين أسنان السلم، الذي أصدر صوتا يحنن قلب نتنياهو ثم صريرا مدويا، ثم همد وتوقف عن الحركة. لم أفرح لذلك لأنني أدركت ان عصارة المانجو تحرشت بالكهرباء التي تغذي السلم فأضربَتْ عن العمل. وصعدت ما تبقى من درجات بالخطوة البطيئة ورأسي مطأطأ، وأنا موقن بأنني سأتعرض للاعتقال ثم الاستجواب ثم الإبعاد. وعندما استجمعت ما تبقى من شجاعتي العنترية المزعومة، رأيت نظرات الاحتقار على وجوه العاملين في المطار، ولم يعنني ذلك كثيرا (طالما ليس في الأمر اعتقال)
اختارت لي إدارة المعهد الذي أتيت للالتحاق به، غرفة في بيت الشباب الكاثوليكي في شمال لندن، وبعد ان وضعت أمتعتي القليلة في الغرفة، قررت الاستحمام، وتوجهت الى حيث الحمامات في الطابق تحت الأرضي في المبنى، وفوجئت بأن هناك نحو عشرة حمامات كل خمسة منها تقابل الخمسة الأخرى، وبلا أبواب، وبها أشخاص يستحمون، وحول الحمامات بعض آخر في انتظار دورهم، وهم أيضا ربي كما خلقتني. فقمت بانسحاب تكتيكي وعدت الى الغرفة، وبقيت زهاء عشرة أيام بلا استحمام، ثم صرت أمارس الاستحمام في نحو الرابعة فجرا والجميع من حولي نيام.
ثم رأيت ان المسألة ما بدهاش، وانتقلت الى غرفة أنيقة مع اسرة إنجليزية في منطقة كامدن تاون، وكان الحمام مشتركا بيني وبين افراد العائلة، ولكن ذلك لم يضايقني، لأن الحمام كان مزودا ب”باب”، وفي ساعتي الأولى هناك قررت الاستحمام، وكان الماء دافئا، فشرعت أغني، ثم فجأة وجدت نفسي أصرخ مستغيثا، وسمعت ربة البيت تصيح من وراء الباب: آر يو أوكي؟ هل أنت بخير؟ قلت لها: إن عطلا في تمديدات الحمام جعل ماء قادما من القطب الشمالي ينهال على جسمي. وشرحت لي السيدة تلك أن بالحمام عدّاد لابد من تغذيته بالعملات النقدية كي يأتي بالماء الساخن وأن ما أتاني من ماء دافئ في بداية الأمر، كان ما تبقى من “استخدام سابق”
كنت قد أتيت الى لندن ومعي عدد محدود من الملابس، بغية شراء ما يليق بلندن منها، من لندن نفسها، وفي نحو يومي الثالث في المدينة جاءني زميل سوداني وصل الى المدينة لأول مرة قبلي بيومين، ليقول لي إنه دخل متجرا مر به وهو في طريقه اليّ، وأنه وجد ان الملابس المعروضة فيها “تقريبا ببلاش”، وقررنا على الفور التوجه الى ذلك المتجر، وهناك فوجئت بأن الملابس المعروضة المغلفة بالبلاستيك تكاد فعلا ان تكون ب”بلاش”، فاخترت من هنا وهناك نحو تسع قطع، وفعل زميلي الأمر نفسه، وتوجهنا الى الرجل الواقف خلف الخزينة، وفوجئنا به يقول: ريسيتس!! أي الإيصالات! فقلت له مستنكرا: أنت تعطينا الايصالات بعد ان ندفع أم نعطيك نحن ثمن الملابس والايصالات. فإذا بقذائف من الكلمات البذيئة تنطلق من فم الرجل، وتكررت على لسانه كلمة “لوندري” فقلت لزميلي: انج سعد فقد هلك سعيد، ورمينا بالملابس ارضا وركضنا خارجين من المحل بعد أن أدركنا اننا خربطنا ولخبطنا ملابس تخص لوندري (مغسلة ملابس)، وأن العامل في المحل سيمضي ساعات ليعيد ترتيبها
هناك مثل سوداني يقول: الخيل تجقلب والشكر لحمّاد، وتجقلب كلمة ليست في القاموس، ولكنها تحاكي حركة الخيل عند الركض، ومعنى المثال أن هناك طرفا يتعب لإنجاز أمر ما، ويكون الشكر من نصيب طرف آخر دوره في الإنجاز ثانوي، وها أنتم ترون كيف صادمتُ شخصيا الحضارة البريطانية ومع هذا تكيلون المدح لصمويل هنتنغتون لأنه فقط أصدر كتاب “صدام الحضارات”