المقالات

يروح الزين وتبقى رسومه.

ذكّرتني رسوم ترمب التي شملت القاصي والداني وأشعلت نار الحروب التجارية بين أمريكا وباقي دول العالم، ولعلها تمر على خير، بأن للرسوم وجهًا آخر، وإن كان أكثرها موجعًا، لكنها تحمل من الذكريات ما يُقال عنه من جماليات، وتغنى بها الشعراء ورددها هواة الأدب والمطربون.

والمثل الشعبي “يروح الزين وتبقى رسومه” مثل يُضرب في مواضع كثيرة، منها عندما يغادر إنسان طيب كريم هذه الحياة، لكن تظل طيباته تُذكر وتُشكر. وهناك أمثلة كثيرة: فهناك وفاء السموأل، وكرم حاتم، وفروسية خالد.

وفي الجانب الآخر، فللحُسن أحوال وأقوال، ومن غير الجمال تُضرب به الأمثال وتُذكر به الرسوم اللاتي شغفن القلوب. فالجميلة التي تاه مَن كان صبًّا بها (والصبّ تفضحه العيون)، وإن اختفت الملامح، سواء بعوامل السن أو أحداث لا ترحم لا الروح ولا الجسد، وطبعًا الموت لا يستثني الحلوين ولا غيرهم، ورغم ذلك، يظل يُضرب المثل بجمالها.

والذكريات، حلوها أو مرّها، تظل رسومًا لا تغيب عن الخيال، لا يستشعرها إلا أصحابها ومُعانيها. فعبلة لم يكن التغني بجمالها وقفًا على عنترة، الذي أسهب في وصفها وتفاصيل هيامه بها، إنما أيضًا صارت مثلًا للجمال والعشق العذري الذي دام ردحًا من الزمن، حتى اجتمع الشتِيتان حينما ظنّا كل الظن أن لا يتلاقيا.

أيضًا ليلى وقيس بن الملوّح لهما من القصص والمواقف ما يتغنى بها العشّاق، وخاصة ما يجلبه البُعد من معاناة، وكيف أن قيسًا رغم تشتّته في الصحاري، يضرب هنا وهناك، ثم يمر على الديار باحثًا عن أثرٍ ورسوم، ولو كان موقعًا أو حتى رائحة، فالهَوى وإن كان معنويًا ومشاعر، لكنه يُعاش من بُعد ويظل المحب يجوس بين حين وآخر حول حمى ذلك المكان، ما جذبه إلا شذى لا يُحس به إلا راعي الغرام والتيه.

نعم، رائحة ملموسة، تصورها وتخيّلها كما تشاء، فكل محب له ترجمته الخاصة للرسوم على تنوعها. والثري وافي وإن غادر أهله، فيحتفظ بآثاره، ولا يفهمها ولا يعقلها بالذات إلا الحبيب.

وقال قيس عن الدار، وهي سنام الرسوم ووطنه:

أَمُرُّ على الديارِ ديارِ ليلى
أُقَبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلبي
ولكن حبُّ من سكنَ الديارا

وأبيات قيس سارت بها الركبان، وأصبحت للصبابة عنوان. وكل محب يتشبث بأي ذكرى، حتى ولو عن بُعد.

وجبل التوباد في الأفلاج كان من الرسوم الشاهدة على ما كان بين قيس وليلى، حتى أصبح المكان المفضّل للعشاق من بعدهما، وذكرى تتناولها أحاديث الزوّار والمغرمين.

قال قيس في إحدى خلواته عند ذلك الجبل:

وأجهشتُ للتوباد حين رأيتُه
وهلّل وكبّر للرحمن حين رآني
وأذرفتْ دمع العين لما رأيتُه
ونادى بأعلى صوتِه ودعاني
فقلت له أين الذين عهدتُهم
حواليك في خصبٍ وطيب زمانِ؟

وأمير الشعراء أحمد شوقي مرّ على ذلك الجبل عن بعد، فقال ما غنّاه محمد عبد الوهاب:

جبل التوباد حيّاك الحيا
وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه فكنتَ المرضِعا

هام قيس في البلاد لينشر شعره، وعاد والتقى بلبنى على سفح رامة، وهو مكان في بادية الأفلاج. فوجدها قد خضبت أكفّها، وفي سُلم وتقاليد البادية أن من هي على وشك زواج تحنّي يديها. فتألم، فقال:

ولما تلاقينا على سفح رامة
وجدتُ بنانَ العامرية أحمرا
فقلت خضبتِ الكفّ بعد فراقِنا؟
فقالت معاذ الله، ذلك ما جرى
ولكنني لما رأيتُك راحلًا
بكيتُ دمًا حتى بللتُ به الثرى
مسحتُ بأطرافِ البنانِ مدامعي
فصار خضابًا بالأكفّ كما ترى

ويقال إنها عاتبته فقالت:

أتبكي على لبنى وأنت تركتَها
وكنتَ عليها بالملا أنت أقدر؟
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلّبت
فللدهر والدنيا بطون وأظهر

وكثير عزة قال عن الرسوم:

لعزةَ من أيامِ ذي الغصنِ هاجني
بضاحي قرارِ الروضتينِ رسومُ
لَعَمرُكِ ما أنصفتِني في مودّتي
ولكنني يا عزُّ عنكِ حليمُ
عليَّ دماءُ البُدنِ إن كان حبُّها
على النأيِ أو طولَ الزمانِ يَريمُ
وأُقسمُ ما استبدلتُ بعدكِ خلّةً
ولا لكِ عندي في الفؤادِ قسيمُ

ومع ذكر قيس، لا بد من ذكر أبيات له جمالها يأسر كل من يتذوق الشعر ويراعي حالة المحبين، ومن له في الهوى أحوال، يقول:

وإني لأهوى النومَ في غير حينهِ
لعلّ لقاءً في المنامِ يكونُ
تُحدّثني الأحلامُ أني أراكُمُ
فيا ليتَ أحلامَ المنامِ يقينُ
شهدتُ بأني لم أُحِلّ عن مودّةٍ
وإني بكم لو تعلمينَ ضنينُ

وتظل الديار هي عين وقلب الرسوم، فقال الشاعر الأمير الصنعاني:

سلامٌ على تلك الديار وأهلها
ديارٌ بعينِ القلبِ صرتُ أراها
لئن بعدتْ عنّا وشطّ بها النوى
فما شطّ عن قلبِ المحبّ هواها
فما لذّ لي شيءٌ سوى ذكرها، ولا
تملكُ قلبي المستهامَ سواها

كل منا له رسوم لا يمل من تذكّرها، تمرّ به بين فينة وأخرى، فتأخذه إلى مسارح تُعرض بها تفاصيل مواقف تهنأ بها القلوب وتقرّ بها العيون.

وهناك رسوم نتذكرها فتبكي العين ويحزن القلب. ولكنها رسوم حنين وعهود ووفاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى