مكة المكرمة يرجع بناؤها إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل، وهي ذات أسماء عديدة: معاد، أم القرى، البلد الأمين، البلدة، بيت الله الحرام، أشرف البقاع وأفضلها، وخير البلاد وأكرمها، تهفو إليها القلوب قبل الأجساد، هي موطن العبادة والإنابة. إن ما تحمله قلوب المسلمين حيثُ كانوا لمكة المكرمة شيءٌ عظيمٌ.
كم من دموعٍ جرتْ على خدود المحرومين من زيارة مكة المكرمة كلما رأوها على التلفاز؟ وكم من دموعٍ أجراها المودعون لمكةَ المكرمة حزنًا على فراقها، حتى إنهم ليخرجون وهم يمشون القهقرى لئلا تفارق أعينهم الكعبة الشريفة!
وكم من مدارس ومعاهد أنشأها زوّار مكة المكرمة من التجار والوجهاء لتكون زادًا لأبناء مكةَ المكرمة ومجاوري الحرم الشريف.
من هذه المدارس؛ المدرسة الصولتية التي سميت كذلك نسبة إلى أميرة هندية مسلمة “صولة النساء”، أنشأها الشيخ محمد رحمة الله بن خليل الله الهندي، والمدرسة الفخرية التي أسسها الشيخ عبد الحق قاري الهندي، ومدرسة دار الفائزين التي أسسها الشيخ عبد الخالق محمد البنغالي، والمدرسة الخيرية العارفية قام بتأسيسها محمد عارف بن تراب البنغالي هاجر إلى مكة ودرس بالمسجد الحرام، ومدرسة الفلاح التي أسسها الحاج محمد علي زينل، وغير ذلك من المدارس الكثيرة.
وكم من أربطةٍ وأوقافٍ عُمّرتْ بها أرجاءُ مكةَ أوقفها التجار والأثرياء من كل أنحاء العالم الإسلامي على فقراء الحرم، أو على الحجاج والمعتمرين من بلدانهم.
أضف إلى ذلك ما تحمله قلوبُ هؤلاءِ من إجلال لمكة المكرمة يحملهم على التأدبِ فيها، حتى إن أحدهم ليمتنع عن البصاقِ في أرض مكة المكرمة! وربما بالغ بعضهم فامتنع من لبس النعال تعظيمًا وتشريفًا لهذه الأرض المقدسة!
ومن عجيب ما وقفت عليه من الأخبار في هذا الباب أن حاجًّا ماليزيًا اكتشف بعد رجوعه إلى بلاده أنّه حمل في حقائبه بعض حصى المزدلفة، فتأثَّم من إخراج حصى الحرم إلى الحِلِّ، فذهب بها إلى البريد وأرسلها إلى مدير بريد مكة، ورجاه أن يكلّف من يرى بإعادتها إلى موضعها من المزدلفة!
والماليزيون شوافعُ، وعامة الشافعية يرون كراهة إخراج شيء من تراب الحرم وحصاه إلى الحِل، وبعضهم يرى حرمة ذلك، وبغضّ النظر عن الحكم الفقهيّ فإن الشاهد هو ما سكن قلب هذا الحاج من تعظيم لمكة حمله على هذا الفعل!
ولا زال في الذاكرة منذ سنوات عند لقائي مجموعة من الأكاديميين الباكستانيين، فجرى الحديث بيننا عن مكة ومكانتها، والحرم ومنزلته، وما تبذله قيادة المملكة العربية السعودية – أعزها الله – من جهود جبّارة لخدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما، أخبروني أنهم يسمون إمام الحرمِ المكي: (إمام الكعبة)، وأن الحاج منهم أو المعتمر يتباهى على أقرانه إذا تيسر له أن يسلّم على (إمام الكعبة)! ووجدتُ في كلامهم من الحب للمملكة وقيادتها ولمكة المكرمة والحنين إليها والتعلق بها.
وهذه كلها صورٌ مشرقةٌ مضيئة تدل على الإجلال والتعظيم الذي يحمله المسلمون في كل بقاع الأرض لهذه المدينة المقدسة.

0