إنه عدوٌ واحد وقاتلٌ واحد لم يتغير ولم يتبدل رغم مضي السنين وتعاقب الأيام، لم ينس سياسته، ولم يتخلَ عن منهجه، ولم يتخلص من حقده، ولم ينزع من قلبه الغل والكره، عنصرياً كان في ماضيه ومازال، قاتلاً سفاكاً، محباً للدم، عاشقاً للقتل، ممتهناً للجريمة، يغتال بغدرٍ، ويقتل بحقدٍ، ويفتعل الجرائم بخبثٍ، حاقداً على الشعب الفلسطيني، متآمراً عليه، ساعياً لقتله وطرده وسجنه وتعذيبه، يخطط ليقتل، ويفكر ليطرد، ويختلق الأسباب ليعتقل، ويبتكر الوسائل ليحقق أهدافه ويصل إلى غاياته.
إنه عدوٌ ماكرٌ خبيث، يكره الفلسطينيين وأطفالهم، ويحقد عليهم وعلى أجيالهم، ويتطلع للتخلص منهم، والنيل من وجودهم وصمودهم، يتعمد قتل الأطفال، ويتعبد بسفك دمائهم، وإنهاء حياتهم، وشطب أسمائهم من سجل الأحياء، لا تمنعه براءتهم عن الجريمة، ولا يصده طهرهم عن القتل، لا تحول دفاترهم وأقلامهم الملونة عن الغدر بهم، وحرمانهم من حقهم في الحياة، وحرمان ذويهم منهم وحرق أكبادهم حزناً عليهم، فقد أقسم الإسرائيليون أن يقتلوا البسمة من على وجوه الفلسطينيين، وأن يغتالوا الأمل في عيونهم وقلوبهم، ويقضوا على كل بارقة أملٍ لهم في مستقبلٍ واعدٍ مشرق.
حادثة حافلة أطفال المدارس في مدينة رام الله، الذين التهمتهم وألعابهم النيران، وقضت عليهم حادثة الاصطدام، وبعثرت الحافلة الإسرائيلية العمياء أكياس الطعام البسيطة التي يحملونها، ومزجت الخبز والحلويات والمكسرات بدمائهم ثم حولتهم جميعاً إلى رمادٍ، في حادثةٍ يصعب أن نصفها بالعرضية البريئة، وبأنها حادثٌ مروريٌ عابر، لم يخطط له ولم يكن مقصوداً، سببته رطوبة الطريق، ووعورة المكان، وقسوة الطقس في حينها، كما لا يمكننا أن نحمل سائق الحافلة الفلسطينية المسؤولية عن الحادثة، ولا المدرسة التي نظمت الرحلة وأشرفت عليها، فلا إهمال من السائق ولا تقصير من المدرسة، ولا علاقة للطريق ولا شأن للطقس فيما جرى، سوى أنه تعبيرٌ عن الحقد والكره، وفرصة للتنفيس عن النفس بمزيدٍ من القتل والإساءة.
إننا أمةٌ مسلمة نؤمن بقضاء الله خيره وشره، ونسلم به موتاً كان أو حياةً، ولا نعترض على قضاء الله ولا نتبرم بحكمه، ولكن حادثة رام الله ليست حادثة بريئة وليست عرضية لأنها ببساطة تذكرنا بحادثة العمال الفلسطينيين الذين خرجوا مع تباشير الفجر الأولى من مخيمات قطاع غزة طلباً للرزق، وسعياً وراء كسب لقمة العيش لهم ولأطفالهم، وكان بعضهم نائماً في الحافلة، وغيرهم ينتظر الوصول إلى المكان الذي سينزل فيه، كان ذلك على أحد مفارق الطرق بمدينة أسدود الساحلية الفلسطينية المحتلة، قبل خمسٍ وعشرين سنة، عندما قامت شاحنةٌ إسرائيلية بالانحراف والاصطدام عمداً بحافلة العمال الفلسطينيين، فقتلت منهم أربعة، كانوا هم شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي اندلعت مساء السابع من كانون أول / ديسمبر 1987، فكانت دماؤهم الزكية المباركة وقود الانتفاضة الفلسطينية العملاقة، التي صنعت مجد الشعب الفلسطيني، ورسمت له صورةً جميلةً رائعة لدى كل شعوب العالم، وقد حققت دماء الشهداء الأربعة ما لم تحققه سنواتٌ طويلة من المقاومة والقتال، وأشعرته بأنه شعبٌ قويٌ قادر على مواجهة آلة القتل الإسرائيلية البشعة.
قبل خمسٍ وعشرين سنة كنا متأكدين من أن حادثة الاصطدام كانت متعمدة، وأنها لم تكن عفوية ولا بريئة، بل كانت مقصودة ومخططٌ لها، واليوم نكاد نكون أكثر يقيناً من أن القاتل ما زال يصر على جريمته، وأنه قد خطط لها وعزم على تنفيذها عن قصدٍ وإصرار، وأنه انتقى المكان واختار الموقع وحدد الزمان المناسب، لينفذ جريمته، ويحقق مأربه، ولعله من الخطأ الجسيم أن نبرأه من الجريمة، وأن نخلصه من سوء النية والقصد، وأن نجرده من الإصرار والترصد، ولعل الكلمات الإسرائيلية العفوية التي صدرت إثر الحادثة، وعبروا بها -مسؤولين وعامة- عن مشاعرهم إزاء الجريمة، وعن حقيقة عواطفهم تجاه الضحايا الأطفال وعائلاتهم المكلومة، تؤكد أن الجريمة كانت مقصودة، والحادثة كانت مفتعلة، فقد فرح الإسرائيليون بها، وشربوا نخب مقتل الأطفال، وتبادلوا التهاني فيما بينهم، تماماً كما كان حالهم صبيحة يوم السابع من كانون أول / ديسمبر عام 1987، عندما رقصوا فرحاً لمقتل العمال، ورفعوا عقيرتهم طرباً بما أصاب عمال غزة البسطاء، ولعل هذه الحادثة تذكرنا بسلوك الإسرائيليين وتصرفهم لو أن سائق الشاحنة كان فلسطينياً، وأن الضحايا كانوا من الإسرائيليين، إذ أن أول شئٍ كانوا سيفعلونه هو قتل السائق، حتى ولو كان الحادث عرضياً، وكان واضحاً فقدانه للسيطرة على سيارته، وعدم تحكمه فيها أو في كوابحها، فإنهم دوماً يحكمون على الحوادث الفلسطينية بأنها تخريبية ومقصودة، أما جرائمهم فهي عفوية وبريئة وغير مقصودة.
إنهم هم الإسرائيليون أنفسهم الذين كانوا في أسدود قبل خمسٍ وعشرين سنة، اليوم يعودون إلى طبيعتهم، ويعبرون عن حقيقتهم، فقد شكروا الله على هذا اليوم المبارك، وسألوه أن يزيد في عدد قتلى الفلسطينيين، وألا يشفي جرحاهم، وألا يكتب الحياة لمصابهم، وأن يزيد في عذاب الجرحى، وأن يذيق عائلاتهم المر والحزن، وأن يسكب الدمع على خدود أمهاتهم وعائلاتهم، ومن الإسرائيليين من طلب من أبناء دينه أن يصلوا لله شكراً وأن يسألوه في كل يومٍ حافلة جديدة، وأن يضاعف عدد القتلى ويعمق حالة الجرحى، إنهم اليوم فرحين سعداء، فقد نقص عدد “المخربين” الفلسطينيين، وانتهى الأمل بأن يكون لهم تبعٌ وذريةٌ وولد، مخافة أن ينافسوهم على الأرض، ويستعيدوا منهم الحق والوطن.
أيها الفلسطينيون والعرب تذكروا معاً فهذا يومٌ كيومِ أسدود، إنه يومُ كريهةٍ لنا فاجعلوا يومَ كريهةٍ لهم، واجعلوا ما بعده كما كان بعد حادثة أسدود، إذ ما أقعدنا الألم ولا أسكتنا الدم، ولا أضعف من عزيمتنا الفقد والشهادة، وعودوا إلى سابق عزتكم وكرامتكم، وثوروا على حفلات القتل ومهرجانات الموت التي يعقدها لكم الإسرائيليون، فلا شئ يوقف القتل سوى المقاومة، ولا شئ يرعب الإسرائيليين سوى اللجوء إلى البندقية، وقد والله أدبتهم الانتفاضة، وعلمتهم دروساً عظيمة وأذاقتهم أياماً أليمة، وعلموا خلالها يقيناً أنهم عن هذه الأرض سيرحلون، وأن شعبها الذي ضحى بآلاف الشهداء لن يتأخر عن التضحية بمثلهم وأكثر من أجل فلسطين وحريتها، وشعبها وعزته وكرامته.