المحليةالمقالاتعبدالله احمد الزهراني

غربة ضمير

[frame=”19 80″][SIZE=4] [COLOR=crimson][ALIGN=JUSTIFY]غربة ضمير[/COLOR]

كثيراً ماتنشأ علاقة حميمة بين الإنسان وبيئته بما تحويه، ومحيطه بكل ما فيه، وكأنه ثم تواصل غير ملفوظ، وعلاقة حب بغير ضجيج ، تعمل عملها بين قلبين أحدهما روحاني لطيف، والآخر جامد المظهر طاهر المخبر.

[COLOR=purple]إنه حب عذري طاهر، فكم هو لطيف ذاك الحنين الذي يربطك ببيئتك حَجَرها.. ومَدَرها.. وبَشَرها![/COLOR]

حتى يغدو البعد عن أولئك الثلاثة غربة، فنرى المغترب إن كان قادراً على التعبير ملأ وقته بآهات الشوق للأهل والأحباب والبلاد، وسطّر ذكرياته وآماله في العودة لمسقط الرأس.. يمنِّي نفسه بقرب الرجوع ليروي ظمأه من مرابع الوطن.
ولذا تجدنا نتعاطف مع ذلك المغترب لعمل أو دراسة أو علاج أو غيرها؛ إيمانًا منّا بأن للغربةِ ألماً نفسياً مزعجاً بل ربما تركت آثاراً باقية على نفسية المغترب كلما ألمّ به موقف، أو هزه الشوق للأهل والوطن.

مع ذلك كله نعلم أن المسافر سيعود عما قريب – غالباً- وإن طال سفره وآلمته غربته، والمكتئب لغربته وبعده عن الأهل والأحباب سرعان ما تصبح تلك الآلام ذكرى ماضية، وتاريخاً يتفكّه به في المجالس، ولكني أظن أن ألم الغربةِ يكون أعمق حين يتغيّر من غربة جسد إلى غربة ضمير، ومن غربة جماد إلى غربة روح ، ومن غربة شخوص إلى غربة نفوس.

حينها يكون الألم أعمق والأثر النفسي أكبر، ولعل دليل ذلك أنّ غربة الجسد أصلاً لا تأخذ بُعداً مؤلماً حتى تنضاف إليها غربة النفس. فكيف إذا كانت الغربة غربة معان محضة وضمائر وقيم؛ تلك هي الغربة المؤلمة والطامة العامة.
• عاش الإمام الشافعي شيئاً من غربة الضمير والقيم، فسأله بعض الذين أحس بغربة الضمير بينهم أن يحدثهم وهو يرى عدم أهليتهم للحديث فكان مما أنشأ شعرًا في ذلك:

[COLOR=green]لعمري لئن ضيعت في شر بلـــدة
فلست مُضيعاً بينهم غرر الكلـم
فإن فرج الله اللطيف بفضــــله
وصادفت أهلاً للعـلوم وللحكم
بثثت مفيداً واستفدت ودادهـــم
وإلا فمكنون لدي ومكتتــم
ومن منـح الجهّال علما أضاعــه
ومن منع المستـوجبين فقد ظلم[/COLOR]

* ولذلك أخي القارئ الكريم : حين تعيش في بيئة تفشو فيها الأثرة، ويندر فيها الإيثار، ويرى الناس كرم الطباع، وسخاء النفس وإيثارها لأحبابها عن نفسها أمراً غريباً؛ حينها تشعر بغربة ضمير حقيقية بين ظهراني أناس لا يهتم أحدهم أبعد من أرنبة أنف نفسه!

* وكم تكتوي نفس الكريم ألماً حين يجد في كثير من البيئات التي تنتسب للعلم – وأهلها مسلمون- أنهم ينظرون للفكرة النّاشئة من مبدأ ديني بنظرة توحي بعدم الاعتزاز بالنص الشرعي وأهدابه، والاحتفاء به، حتى يغدو صاحبها مضطراً لأن يجمع حولها البراهين، ويزيّنها بأقاويلَ من هنا وهناك حتى تقبل؛ وكأنه يحمل بضاعة مزجاة يتكفف الناس أن يقبلوها عنه! فكم يكتوي الضمير الحي من غربة (قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ) بين ظهراني بعض المسلمين.

* وغربة ضمير أخرى تتجلى في موقف بعض معلمي ومعلمات مدرسةٍ ما، إزاء عطاء ذلك المعلم الموهوب الطموح، وجهد تلك المعلمة الباذلة لوقتها ومالها ؛ من أجل طلابهم رجاء أن يفيدوهم وينفعوهم، فيحملهم الضمير اليقظ الحي الذي يحملونه على استغراق كل سبيل يمكن أن تصل بها رسالتهم التربوية والقيمية. وفي الوقت نفسه ليت هذه المعلمة الفاضلة تسلم من تخذيل بعض صويحباتها، وليت ذلك المعلم الطموح يسلم من تندّر زملائه ، ولولا استمرار ذلك المعلم الدؤوب وتلك المعلمة الطموحة في عطائهم لضاع كثير من فلذ الأكباد في كثير من المحاضن، والظن أنه لم يمنع ازدياد هؤلاء العاملين، إلا كثرة من يلومهم؛ إذ ينقسمون ما بين معجب متفرج، وبين مثبِّط يلومهم على عطائهم.ألست ترى معي أن ذلك الضمير الحي يعد في غربة بين ظهراني صنَّاع الضمائر.

* والحمد لله أن أصحاب الضمائر الحيّة المتيقظة لا يستسلمون لعذّالهم، ولا تتحطم نفوسهم وهممهم لكثرة الناقدين، وقلة المعينين، وندرة السالكين؛ لأنهم يجدون سلوتهم بالجزاء العظيم الذي ينتظرهم، وبالحق الجليل الذي يحملونه، وبالضمير الحي الصادق الذي لا يعرف الخنوع للمطامع، أو الركون للرذائل، أو القعود عن الفضائل.

[COLOR=green]عبدالله الطارقي
عضو الرابطة العالمية لعلماء النفس المسلمين
عضو الجمعية السعودية للطب النفسي
عضو جمعية علم النفس الأردنيةJPA [/ALIGN][/SIZE][/COLOR][/frame]

تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    قد تكون غربة ..ضمير ، أو غربة …اسلام ،أو غربة إنسان لا زال يحمل همّ الدين

    فقليل هم اليوم من يحملون همّ هذا الدين ونشره وتوثيقه والدعوة اليه

    قد تبدو كلماتي غريبة وليس لها علاقة بموضوع المقال ظاهريا

    ولكن هذه كلماتك

    (والحمد لله أن أصحاب الضمائر الحيّة المتيقظة لا يستسلمون لعذّالهم، ولا تتحطم نفوسهم وهممهم لكثرة الناقدين، وقلة المعينين، وندرة السالكين؛ )

    وهذا لا يكون الا لمن يحمل بقلبه هم الدين والدعوة اليه بحسن اخلاقهم وهم رعاية جيل كامل فى شتى مجالات الحياة ..نامل ان يكون هو جيل العزّة والرفعة والتمكين
    وكيف سيكون ذلك إن اغتربت ضماائر المسلمين عن اجسادهم؟!!
    وكيف يكون ذلك إن صار الاسلام وأخلاقه وتعاليمه وحرصه
    غريبا حتى فى المسلمين ولا حول ولا قوةّ الا بالله العليّ العظيم

    كتبت فأبدعت استاذ " عبد الله"

    واستوقفت اقلاما وعقولا هنا بل وملكت على الألباب اقلامها
    لحتى ابت ان تمر دون انسكاب حبر على هذه الصفحة
    اتمنى الا يكون فى انسكابه تقليلا من الجمال بعدم استطاعته المحاكاة

    كل تقديري لقلمك ولشخصك الكريم

    أطيب تحية

  2. بالتأكيد أخي الكريم

    ما أشد غربة الضمير وما اقساها بين ظهراني أهل الإستئثار

    نجد غربة ضمير في الشارع

    في السوق

    في العمل

    بأوجه وأشكال متعددة

    وأرى ان طفرة الماديات قضت على الاخلاقيات الا مارحم ربي

    شكرا لطرحك الراقي

    وإشعاع حرفك الساحر

    وافر التقدير

  3. الكاتب الاستاذ عبدالله الطارقي
    هو بالاصل رجل ( تربوي) من طراز فريد
    سعدت ذات يومأ عندما اجتمعنا .. هو وأنا .. بدون موعد
    فوق درب التربية والتعليم
    فابهرني هذا .. الطارقي
    بنبله .. وانسانيته .. وتربويته .. ورجاحة عقله.
    كنت عندما اضيق ببعض قضايا العمل .. الوذ بمشورته
    فاجده .. الرجل الرجل
    المح بين عينيه بريق الاخلاص .. وحشد الخبرة التراكمية
    وحاضرية البديهية .. وسعة الافق
    ولا غرابة .. ان يسطر قلمه.. هنا
    فيضا من فيوض ابداعه
    واذا كان لي من ملاحظة .. هنا
    فهي أننا ننتظر من الطارقي الذي عرفته
    عفويا .. تفاؤليا
    ان نقرأ له في القادم من كتاباته .. شيئا من تفاؤلياته
    التي سنحلق بها ومن خلالها في سماوات فرائحياته التي تعكس ابرز سمات شخصيته
    واصل .. ايها الطارقي .. لثغ ملامحنا بالمزيد من اشراقاتك ؟

  4. أشكر جميع الإخوة والأخوات على مشاعرهم الطيبة واقتطاعهم من اوقاتهم الغالية لقراءة هذه الكلمات

    د. نجلاء
    أشكر لك قراءتك المتأنية، وقد أصبت كبد الحقيقة ؛ أن قطب رحى القضية يكمن فيما يستقر في القلب من هم وهمة.

    أبو مصعب
    أشكر مرورك: والماحتك في محلها أن الماديات الطاغية في زمننا أثرت كثيرا في ايجاد غربة الضمير أو على الاقل في استدامتها.

    أ. بخيت الزهراني

    لا أخفيك أن قراءتي لتعليقك الضافي ارجع للذاكرة أياما بل سنينا ماتعة قضيناها سويا.
    ولا أخفيك أني قررت أن أفشي أسرارك هنا بهذه المناسبة والتي من أهمها : أن عطاء الطارقي كان ضمن منظومة تعليمية يقودها رجل فذ هو أ. بخيت فقد كان تربويا إداريا من الطراز النادر.
    من أسرار الأستاذ بخيت أننا نجد في عمله التربوي انه يستمتع بكل لحظة يقضيها في رسالته التعلمية التربوية لذا أبدع وأثر فيمن حوله وأنا أولهم.

    وأكتفي بهذا حتى لا أندب حظنا لفقد نا القرب من قيادي مثلك وحق لنا أن نبكي الايام الرائعة تلك بمعيتك يا أستاذ بخيت.

    اما التفاؤل والتشاؤم .. صحيح أني بدأت بحالة قد توحي بالتشاؤم لكنه غير مقصود لذا كانت نهايتي نهاية تفاؤل وتفاؤل.. وأعد القراءة وسترى ذلك يا مديري الفاضل
    فمقالتي تدور في فلكك متفائلة وسيبقى فينا أصحاب الضمائر الحية وأنت أولهم

  5. {كثيراً ماتنشأ علاقة حميمة بين الإنسان وبيئته بما تحويه، ومحيطه بكل ما فيه، وكأنه ثم تواصل غير ملفوظ، وعلاقة حب بغير ضجيج ، تعمل عملها بين قلبين أحدهما روحاني لطيف، والآخر جامد المظهر طاهر المخبر.

    إنه حب عذري طاهر، فكم هو لطيف ذاك الحنين الذي يربطك ببيئتك حَجَرها.. ومَدَرها.. وبَشَرها}

    اتفق معك اخى ولكن الا ترى معى انه ليس كل البشر من يرتبطون ببيئتهم وهم قله نراهم يريدون ان ينسلخوا من انفسهم لو امكنهم ذلك ويجدوا فى الفرار او الغربه ملاذا للبيئه التى نشاوا فيها لانها تذكرهم بماضيهم المؤلم ..الذى لا يريدون الارتباط به او حتى تذكره

    ونجدهم يقضون باقى عمرهم فى الغربه ويعتقدون بان غربتهم هى مولدهم ومكانهم وبيئتهم الاصليه ويتجردون نهائيا من انفسهم ان صح التعبير…

    ولكننا نرى ان الانسان السوى الذى نشأببيئه سويه كما ذكرت اخى الفاضل يجد حنينا لبيئته ولاهله و لوطنه

    ( أنّ غربة الجسد أصلاً لا تأخذ بُعداً مؤلماً حتى تنضاف إليها غربة النفس. فكيف إذا كانت الغربة غربة معان محضة وضمائر وقيم؛ تلك هي الغربة المؤلمة والطامة العامة.)

    والله لم اجد اجمل منها من معان وكلمات يعجز لسانى عن وصفها

    وصف دقيق ورائع ومعبر اخى بارك الله فيك وفى قلمك واحساسك المرهف بالمعانى والكلمات

    ( * وكم تكتوي نفس الكريم ألماً حين يجد في كثير من البيئات التي تنتسب للعلم – وأهلها مسلمون- أنهم ينظرون للفكرة النّاشئة من مبدأ ديني بنظرة توحي بعدم الاعتزاز بالنص الشرعي وأهدابه، والاحتفاء به، حتى يغدو صاحبها مضطراً لأن يجمع حولها البراهين، ويزيّنها بأقاويلَ من هنا وهناك حتى تقبل؛ وكأنه يحمل بضاعة مزجاة يتكفف الناس أن يقبلوها عنه! فكم يكتوي الضمير الحي من غربة (قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ) بين ظهراني بعض المسلمين. )

    نعم هذا حالنا الان وما وصلنا اليه للاسف الشديد تجلس مع اناسا ينتسبون للاسلام اسما والعياذ بالله و يتباهون بعلمهم وباصلهم وبمراكزهم الاجتماعيه وهم غير مبالين لاى نص شرعى وغير واعين لامور دينهم ومبادئ دينهم الحنيف

    ( * وغربة ضمير أخرى تتجلى في موقف بعض معلمي ومعلمات مدرسةٍ ما، إزاء عطاء ذلك المعلم الموهوب الطموح، )

    نعم انها غربه ضمير اخرى

    لان العلم براى فى اى مكان كان دوره خطير والكلمه التى يقولها تكون باذن الله مسموعه وربما تصل قبل ان تصل كلمه ولى الامر لولده

    فلابد من مراعاه الله فى كل ما يقال ويدرس

    ولابد من يقظه الضمير فى كل كلمه وفى كل جهد يبذل

    والله اخى لو بذل كل شخص فى مجاله ضمير يقظ لوجدتنا غير ووجدت حالنا غير

    واخيرا بارك الله فيك اخى وفى كل كلمه سطرتها على هذه الصفحه بدقه وباحساس كاتب وشاعر ايضا

  6. الله يا أستاذ طارقي ..فقد خطت اناملك اروووع الكلمات والعبارات في موضوعك غربة ضمير وكان جدا رااائع بكل ما تعنيه الكلمه ..وفقك الله يا أستاذ ولا تحرمنا من جديدك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى