المحليةالمقالات

وجوه الحجاج

[JUSTIFY][COLOR=#FF0036]وجوه الحجاج[/COLOR] بقلم : محمد بن ربيع الغامدي[/JUSTIFY] [JUSTIFY] عندما كنت أصغي لوالدي يتحدث مع أنداده، كانت تطرق سمعي كلمة الطلعة، وقد عرفت فيما بعد أنها مهنة انقرضت الان، يمتهنها أبناء القرى من مكة والطائف والباحة وغيرها، من القادرين على نصب الخيام وتجهيز أماكن الاقامة في المشاعر وتأمين الطعام وسواه من الخدمات، يلتحق الواحد منهم بأي مطوف من المطوفين فيطلع معه ومع حملته من مكة الى المشاعر ومن هنا أطلقوا عليها اسم الطلعة.

ولم تكن تلك المهنة لتحقق شيئا يذكر من الدخل، فدخلها مبالغ هينة بسيطة لا تشد اليها الرّحال ولا تشرئب نحوها المطامع ولكنها الرغبة في العمل ولا عمل في الحج إلا في الحج، ثم هو استشعار الواجب نحو ضيوف الرحمن، وهذا ديدن أهل الحجاز وهوامشه الجغرافية يرضعونه من أثداء أمهاتهم، وفي التعامل مع الحجاج متعة كان يحدثني عنها أبي ورفاقه لكني ما استوعبت ذلك وما فهمته ولا قدرته حق قدره إلا بعد أن عشته بنفسي.

عندما سكنت مكة المكرمة في مطلع شبابي اكتشفت وجوه الحجاج لأول مرة، وكنت أراها قبل ذلك في الصحف والمجلات والكتب التعليمية والاعلامية، سكنت في عامي الأول في حارة الملاوي من جهة قصر السقاف، ولما كان هذا المكان موعدا يتجمع فيه الحجاج آنذاك في طريقهم ليوم التروية بمشعر منى فقد كانت فرصتي مواتية أن أقترب أكثر من الدهشة، دهشة المحشر قبل يوم الحشر، حيث السحنات والألسن والطبائع والمنابت تتخلّق أمامي في لحظة واحدة، واكتشفت حينئذ أن لوجوه الحجاج على اختلافها سماحة وبهاء.

عملت في السنوات اللاحقة مطوفا في الحرم الشريف، وكلمة المطوف في مكة تطلق على اثنين من الرجال، المطوف الذي يستقبل جماعات كبيرة من الحجاج فيؤمن لها السكن والزاد والحركة من بداية الحج حتى نهايته، وهي مهنة تتوارثها بيوتات معروفة في مكة المكرمة، أما المطوف الثاني فهو الذي يطوف بنفر من الحجاج حول الكعبة فيدعي بأدعية الطواف وهم يرددون من خلفه، ويسعى بهم بين الصفا والمروة فيدعي بأدعية السعي وهم يرددون من خلفه، ولم يكن الحاج ملزما باتخاذ من يطوف به ويسعى، ولكنه اذا رغب اتخذ مطوفا مسعّيا بأجر زهيد، وكنت أنا من أولئك المطوفين المسعّين، ومعي غيري خاصة من طلاب الجامعة الذين يجدون في هذه الخدمة مصدرا اضافيا للدخل.

لقد استهواني هذا العمل كثيرا، فكنت أنتظر موسم الحج في كل عام لأرتدي عباءة المطوف السوداء وأنقطع للعمل بين المطاف والمروتين، وكنت طيلة أيامي تلك ألمس في الحجاج ترفعا عن كل خلق سيء مهما صغر شأنه، وتحرزا من الجدل والتجهم بل وحتى من ارتفاع الصوت، وكنت أسمع وجيب قلوبهم مع كل دعوة مؤثرة تلامس أسماعهم، بل كنت حينما أسترق النظر الى وجوههم أراها وقد اخضلت لحاهم بالدموع.

لم يزل الحج من أرق وأجمل المناسبات التي تمر على بلادنا، وخاصة على مكة المكرمة وما حولها من المدن والبلدان، حجاج من شتى بقاع الأرض، مختلفة ألوانهم مختلفة ألسنتهم مختلفة منابتهم لكن غاياتهم واحدة واليقين الذي يملأ جوانحهم واحد، ربهم ونبيهم ودينهم واحد، صلاتهم ونسكهم ومحياهم ومماتهم لله رب العالمين، تعلو وجوهم مشاعر الغبطة والرضى، وتغشاهم السكينة والوقار، وتنفرج أساريرهم عن وضاءة خفيّة، وجوه تستحق منا أن نبتسم لها ورب الكعبة.[/JUSTIFY]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى