لنْ أتوقَّف، هنا، عند روعة الكتاب، وهو رائعٌ حقًّا، ولنْ أُدِيم التَّأمُّل في ذاكرته، وهي تَبْعث على الدَّهَش والإعجاب، ولكنَّني سأقف عند خمسة أسطر ونصف السَّطر مِنْ كتابه المومَأ إليه، فَثَمَّ ما أريد.
مِنْ علماء المدينة المنوَّرة في أواخر العصر العثمانيّ السَّيِّد حسين أحمد، شيخ الجامعة الهنديَّة الإسلاميَّة، جامعة ديوباند، استوطن المدينة المنوَّرة، وأُطْلِق عليه لقب “المدنيّ”، وعُرِف به.
لم يكنِ السَّيِّد حسين أحمد المدنيّ مِنْ غمَار الرِّجال، ولكنَّه كان عالِمًا وزعيمًا سياسيَّا، وحين نزل الأمير شكيب أرسلان بالمدينة المنوَّرة أَعْجَبه السَّيِّد حسين، وأحْسَبُ أنَّ ما سأسوقه مِنْ كلام زيدان حقيقٌ بأن يُجَلِّي لنا سبب ذلك الإعجاب.
يقول محمَّد حسين زيدان:
“وكما ذكر عبد الحميد بن باديس شيخ المسجديِّين الَّذين نهضتْ بهم الجزائر، فعبد الحميد بن باديس الَّذي نأخذ ما ذكر عنْ حسين أحمد هاجَرَ إلى المدينة فِرَارًا مِنَ الاستعمار الفرنسيّ حتَّى إذا اجتمع بالسَّيِّد حسين أحمد، قال له: لماذا جئْتَ هنا، وماذا تصنع؟ قال: أُفكِّر لعلَّ فرصةً تسنح لشنّ الحرب على الفرنسيِّين، فقال له السَّيِّد أحمد: إذا انتصبْتَ للجهاد فكُنْ في أرض الجهاد.. ارجعْ إلى الجزائر، وعاد عبد الحميد بن باديس وكان الشَّيخ الأوَّل لثورة الجزائر”.
ولنا أنْ نتأمَّل كلمة السَّيِّد حسين الذَّهبيَّة: “إذا انتصبْتَ للجهاد فكُنْ في أرض الجهاد”! هنا يكمن كلّ شيْء.
وفي “ذكريات العهود الثَّلاثة”، يَسُوق محمَّد حسين زيدان طائفة مِنَ الأسماء الَّتي طالَما قرأناها في كُتُبٍ تؤرِّخ لحركة النَّهضة في الثَّقافة العربيَّة الحديثة، ويَدْهَش القارئ، إذا أدام تأمُّله، كيف تَهَيَّأ لتلك الأسماء أنْ تَجْتَمع في المدينة المنوَّرة قُبَيْل الحرب العالَميَّة الأولَى؟ بعضٌ منهم حَجَّ وزار وطاب له الجِوَار، وبعضٌ آخَر انتُدِبَ لمشروع الكُلِّيَّة الإسلاميَّة، وآخرون أتَمُّوا حجَّهم وزاروا القبر الشَّريف، ويتهيأون للعودة إلى أوطانهم.
وفي الجملة كان القوم مِنْ رادة النَّهضة والبعث الحضاريّ، ويكفي أنْ أسوق أسماءهم لنعرف خطرهم: الأمير شكيب أرسلان، وعبد الحميد بن باديس، ومحمَّد البشير الإبراهيميّ، وعبد العزيز جاويش، وحمدان بن الونيس، والطَّيِّب العُقْبِيّ، وجمال الدِّين القاسميّ، وعبد القادر المغربيّ، وأحمد لطفي السَّيِّد، وعليّ كامل – صاحب صحيفة اللِّواء-.
كان الحرمان الشَّريفان في ذلك العهد مُتاحيْن لعلماء العالَم الإسلاميّ، وما إن يحجّ عالِمٌ أوْ فقيهٌ أوْ محدِّث حتَّى يختلف إلى أروقتهما، يَصِل ما بينه وبين علماء الحجاز، ويلتقي مَن حَجَّ أوْ جاوَر مِنْ علماء العالَم الإسلاميّ. وما بين متون الفقه والمنطق وأحاديث البخاريّ ومسلم، يَخوض القوم في ما نزل بالعالَم الإسلاميّ مِنْ نوازل، أعظمُها خطرُ الاستعمار، ويتواصَوْنَ بجهاده ومقاومته، كما عرفْنا في خبر ابن باديس والسَّيِّد حسين أحمد المدنيّ.
على حَصَيَات المسجدين الشَّريفيْن رُوِيَتِ الأحاديث المُسَلْسَلة، وأهْدِيَتِ الكُتُب، وتُبُودِلَتِ الأفكار، وذلك أنَّ موسم الحجّ والزِّيارة كان بمنزلة تَسْويق الدَّعوات الدِّينيَّة والطُّرُق الصُّوفيَّة والكُتُب والأفكار، وأهمّ الأفكار وأخطرها ما له آصِرةٌ بالجهاد ودَفْع الاستعمار.
ومِنَ القرن الرَّابع عشر الهجريّ، سأعبر القرون إلى القرن الثَّاني عشر، أبحث عن شواهد وأحداث تُشْبه حكاية محمَّد حسين زيدان عن ابن باديس والسَّيِّد حسين أحمد المدنيّ، أُفَتِّش في أروقة المسجدين الشَّريفيْن، وبين كُتُب الصِّحاح والتَّفسير وخِرَق التَّصوُّف عنْ نبأ ما.
الآن سأتحوَّل مِنْ غرب العالَم الإسلاميّ إلى القارَّة الهنديَّة، فعسى أنْ أُمْسِك بأثارة من الحرمين الشَّريفيْن.
نقرأ في كتب الرِّحلات والتَّراجم ما اعتدْنا قراءته في كتب تراجم علماء المسلمين في مختلِف ديارهم، علماء وطلَّاب يحجُّون، ويختلفون إلى أروقة المسجد الحرام والمسجد النَّبويّ الشَّريف، يطمعون في السَّلاسل الحديثيَّة العالِية، وأعلاها ما كان في المدينتين المقدَّستين، يَدْرسون، ويقرأون، وربَّما طاب لبعضهم المقام والجوار، فأقام وجاوَر سنةً أوْ تزيد، وربَّما اتَّخذ بعضٌ منهم إحدى المدينتين وطنًا له، فصار في عِدَاد أبنائها.
ليس مِنْ شأن هذا الفصل أن يُؤرِّخ، ولا أن يبسط القول، ويكفيني، في عُجَالةٍ، أنْ أُلْمِح إلى أثر مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وأثر علمائها ومَنْ حجَّ مِنْ علماء العالَم الإسلاميّ في ربْط علماء الهند بحركة العِلْم الدِّينيّ، وبخاصَّةٍ عِلْم الحديث: ظفروا بالسَّلاسل العالية للأحاديث، ولبسوا الخِرْقة، وعادوا إلى بلادهم بكيمياء جديدة ما كان لِيَمَسَّهُمْ أثرٌ منها لولا سياحتهم في الحرمين الشَّريفين.
سوف ألوذ بالعالِم الهنديّ الجليل أبي الحسن عليّ الحسني النَّدْويّ، وأبحث في كتابه “رجال الفكر والدَّعوة في الإسلام” عن أثرٍ ما للحجّ في علماء الهند. ولن يَشُقَّ عليَّ الأمر كثيرًا، فالجزء الرَّابع مِنَ الكتاب أُفْرِد بكامله لترجمة الشَّيخ وليّ الله الدَّهلويّ (1114-1176هـ)، وترجَمَتُه مثالٌ مهمٌّ في بَحْث أثر الحجّ في الهند وعلمائها.
حجَّ وليُّ الله الدَّهلويّ وجاوَر سنةً في بيت الله الحرام، وزار المدينة المنوَّرة وتَلْمَذَ لمحدِّثيها الكبار، ووضع في أشياخه رسالة دعاها “إنسان العَيْن في مشايخ الحرميْن”، وبَسَط القول في ترجمة شيخه أبي طاهر المدنيّ محمَّد بن إبراهيم الكورانيّ، وانتصر لابن تيمية وسار على نهجه، ودافع عنه، وعسَى أنَّ تقيُّل وليّ الدِّين الدَّهلويّ أثر شيخ الإسلام مَرَدُّه تلمذته لشيخه أبي طاهر المدنيّ، وأبو طاهر هذا كان أبوه هو الشَّيخ إبراهيم الكورانيّ سَلَفِيّ العقيدة، منافِحًا عن ابن تيمية، وهذه السَّلَفِيَّة الَّتي عاينَّاها تَوَطَّنَ شيءٌ منها في المدينة المنوَّرة قبل دعوة محمَّد بن عبد الوهَّاب الَّذي كان معاصِرًا لوليّ الدِّين الدَّهلويّ، وإنْ لم يعرفْ أحدهما الآخَر.
[COLOR=#FF0000]ما الَّذي أريد أنْ أبلغه في هذا الفصل؟ [/COLOR]كان الحجّ، وكانتِ المدينتان المقدَّستان معهدًا للعلوم العربيَّة والإسلاميَّة، و”سُوقًا” يُتَبَادَل فيها الدَّعوات الدِّينيَّة والطُّرُق الصُّوفيَّة والأفكار السِّياسيَّة، وحيثما طَاف بنا البصر في العالَم الإسلاميّ، فَثَمَّ كُتُبٌ ودعواتٌ وطُرُقٌ وأفكار عُرِضَتْ في الحرميْن الشَّريفيْن وعادتْ مع الحجَّاج، حين ثابُوا إلى أوطانهم، ولعلَّها تَعْرِف الأصْل الَّذي نشأتْ فيه ودَرَجَتْ، ولعلَّها لا تَعْرِف. [/JUSTIFY]