المحلية

أشواقُ الطَّريق

[COLOR=#FF0000]أشواقُ الطَّريق[/COLOR] حسين محمَّد بافقيه

[CENTER][IMG]https://pbs.twimg.com/media/BV7DCNmCIAAUChQ.jpg[/IMG][/CENTER]

[JUSTIFY]نستطيع أنْ نرسم لقوافل الحجّ طريقًا واضحًا في أذهاننا قلَّما تَحيد عنه إذا ما نَزَّلناه على الواقع، فطريق الحجّ مِنَ المغرب الأقصَى إلى مصر عرفتْه عشرات الأجيال، حتَّى استقرَّ في وجدان المدن والبلدات والقرى والصَّحاري، وأَلِفَ فيها الأجداد والآباء والحَفَدَة هيئة تلك القوافل الَّتي نَهَكَ السَّفر الطَّويل جِمَالها ولَمَّا تُكْمِلِ المسافة بَعْدُ.

إنَّها رِحْلةٌ طويلة، تُحِيط بالعالَم القديم كلِّه. ابحثْ في الخريطة عنْ ناحيةٍ أخرى، واخترِ القَصِيَّة منها، ولتكُنْ بلاد ما وراء النَّهر، وانظرْ ما هناك. تَغَيَّرتِ اللُّغة، وتبدَّلتِ الهيئات، ولكنَّ القافلة واحدةٌ، والغاية واحدةٌ، والتَّلبية واحدةٌ، وتستطيع، كذلك، أنْ تتتبَّع حركة القافلة في عُلُوِّها وهبوطها، وفي توقُّفها وفي سيرها، وتستطيع أنْ ترسم خريطة فيها مدنٌ وبلداتٌ وقرًى، عرفتْ، لزمنٍ غائرٍ في التَّاريخ، تلك القوافل، وأَنسَ أهل تلك النَّواحي مِنْ أرض الله الواسعة، بالحاجّ الَّذي شاء له الله – تبارك وتعالَى – أن تَعْبُر قافلته هذه المدينة، وأن تُنيخ جِمَالها في تلك القرية، وأن يلتقي في تلك النَّاحية شيخًا طالما اشتاق إلى زيارته والقراءة عليه، وأن يَظْهر في تلك البلدة على خزانة مسجدها الجامع، فعسى أن يستنسخ كتابًا ما.

طَوِيلةٌ هي الرِّحلة، وشاقَّة ومحفوفة بالأخطار أنَّى اتَّجَهَتْ.. يا الله! ما أبعد النُّجْعة وما أقربَها! إنَّ أولئك الحجيج ما خرجوا بَطَرًا ولا أشرًا ولا رياءً ولا سُمعةً، إنَّهم غادروا الأهل والولد والوطن، وتَخَلَّوْا عنْ أعمالهم، وسلكوا هذا الطَّريق الطَّويل، وبُتَّ ما بينهم وبين ماضيهم وكلّ ما خلَّفوه في بلادهم، ولا غاية لهم إلَّا بلوغ البيت الحرام، وفي سبيل هذه الشَّعيرة يَهُون كلّ شيْء حتَّى الحياة نَفْسها.

نقرأ في كتب الرِّحلات الحجازيَّة ضُرُوبًا مِنَ الكلمات الَّتي صِيغتْ في وداع الأهل والولد والوطن، ومِنْ عادة جمهرة مِنَ الرَّحَّالين أن يصفوا تلك اللَّحظات الشَّاقَّة على النَّفْس؛ لحظة الوداع، تُسْكَب الدُّموع حارَّةً، ويُشَيَّع الحاجّ بالبكاء وبالعويل، فرحلة الحجّ ليستْ كأيِّ رحلة، وهذا الحاجّ الحبيب قدْ يبلغ مقصده وقدْ يقضي دونه، وإذا ما كتب له الله – تبارك وتعالَى – الحجّ، فربَّما عاد، وربَّما اختطفه الموت.. وعلى الرُّغم مِنْ هذه الأفكار الَّتي تجول في الأذهان، يستجيب الحاجّ لنداء ينبعث مِنْ نَفْسه، ولا يملك تجاهه إلَّا أن يقول: لَبَّيْك!

في الخامس والعشرين مِنْ ذي القعدة، عام ثمانية وثمانين وسِتِّمئة مِنَ الهِجْرة سافَر أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد بن عليّ العبدريّ إلى الحجّ، وفي يوم الاثنين سابع ذي الحِجَّة، عام تسعة وثمانين وسِتِّمئة نزل الرَّكْبُ بالمُحَصَّب، وكانتْ مُدَّة سفره منذ خرج مِنْ بلاده وإلى أنْ بلغ مكَّة المكرَّمة أرْبَتْ على السَّنَة، أنفقها العبدريّ في لقاء الأشياخ وطلب العِلْم.

لمْ أَسُقْ رحلة العبدريّ إلَّا لأنَّه مِثَال صالح لفقيهٍ رحَّالةٍ قلَّما سَلِمَتْ مدينةٌ أوْ بلدةٌ أوْ قريةٌ أوْ ناحيةٌ مِنْ لسانه، حتَّى إنَّ هذه الرِّحلة تصلح أن يَتَّخذها باحث شاهدًا على ذَمّ المدن وسَبِّ أهلها، إلَّا ما كان مِنْ تونس فإنَّه أطنب في تبيان محاسنها ومحاسن قاطنيها، أمَّا القاهرة، والإسكندريَّة، وبرقة، وطرابلس، ومصراتة، وقابِس، والقيروان، وباجه، وبونة، وقسنطينة، ومِيلة، والجزائر، ومليانة= فقدْ أشبعها ذَمًّا وسَبًّا.
لم تكنْ رحلة العبدريّ بالسَّعيدة، وأنَّى له أنْ تكون كذلك، وقدْ سَلَخَ غير مدينة بسياط النَّقْد، ولكنَّه حِينَ دَخَلَ إلى البلد الأمين، في يوم التَّرْوِيَة لانتْ لغته، وابتهج قلبه، وعَذُبَ لِسَانه، وقرأْنا في رحلته كلماتٍ هي إلى العشق والهيام أدنى منها إلى ما سواهما:
“وفي يوم التَّرْوِيَة دخلْتُ إلى البلد الأمين، مقرِّ المجدِ الصَّميم، والشَّرَف المَكِين، فَخْرِ بِقَاع الأرض كلِّها على مَرِّ السِّنين، فأُقْسِمُ بالله أعظَمَ يمين، قَسَمًا لا يَكْذِبُ ولا يَمِين، ما حُرِمَ سُكْناه إلَّا ذُو حَظٍّ غَبِين… يا له مَشْهَدًا شَهِدَ له التَّنزيل بالتَّفضيل، وسَمَا عنْ أن يُقْرَن بعديلٍ أو مَثِيل، ما كاده أحدٌ إلَّا رَجَعَ وشَبَا حَدِّهِ فَلِيل، ولا مالَ إليه بِظُلْمٍ إلَّا والآفاتُ إليه تَمِيل ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيل﴾ [الفيل: 1]، بلدٌ كأنَّ نُفُوسَ الخَلْقِ عُجِنَتْ مِنْ طِينتِهِ؛ فالخواطِرُ مشغولةٌ بتصوُّر زِينته؛ انزعَجَ نحوه عقلٌ طالما سار على هيئته، وابتُذِلَ بالسَّعْيِ بَدَنٌ نشأ على سكينته، يقطع إليه مِيلًا بَعْدَ مِيل. كم حوَى مِنْ مآثِرَ لا تُحَدُّ، كمْ ضَمَّ مِنْ مفاخِرَ لا تُعَدُّ، كمْ به مِنْ أشعثَ دَعْوَتُهُ لا تُرَدُّ، تَوَدُّهُ الدُّنْيا وهو يَعْلَمُ ما يَوَدُّ، مالَ عنها وهي للعقول تستميل. حَرَمٌ لا يُهْتَكُ حِمَاه، شَرَفٌ لا يُحَطُّ عُلَاه، عَلَمٌ لا يُجْحَدُ هُداه، مَنْ أَمَّهُ مِنْ قَفْرِ التِّيه هَدَاه، ويُشَفَى إنْ تَمَسَّحَ به العَلِيل”.
إنَّ ما كتبه العبدريُّ في مكَّة المكرَّمة جَبَّ كلّ ما قاله في المدن الَّتي أشبعها ذَمًّا وسَبًّا، وإنَّ ما اقتبسْتُه مِنْ رحلته، على طُولِهِ، قَدْرٌ يَسِيرٌ مِمَّا قاله في البلد الحرام، وهو مِنْ أعذب ما قاله الرَّحَّالون في التَّعلُّق بمكَّة المكرَّمة وحرمها الآمِن.

أمَّا ابن بطُّوطة فقدْ قال كلماتٍ بالغة التَّأثير في مكَّة المكرَّمة والشَّوق إليها:
“ومِنْ عجائب صُنْع الله تعالَى أنَّه طَبَع القلوبَ على النُّزُوعِ إلى هذه المشاهد المُنيفة، والشَّوق إلى المُثُول بمعاهدها الشَّريفة، وجَعَلَ حُبَّها متَمكِّنًا في القلوب فلا يحلُّها أحدٌ إلَّا أخذتْ بمجامِعِ قلبه، ولا يفارقها إلَّا آسِفًا لفراقها، متولِّهًا لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويًا لتكرار الوِفَادةِ عليها، فأرضُها المباركة نُصْب الأعين، ومحبَّتُها حشْو القلوب، حكمةً من الله بالغة، وتصديقًا لدعوة خليله عليه السَّلام، والشَّوق يُحْضِرُها وهي نائيَة، ويُمَثِّلها وهي غائبة، ويَهُون على قاصدها ما يلقاه مِنَ المَشَاقّ ويُعانيه مِنَ العَنَاء، وكم مِنْ ضعيفٍ يرى الموتَ عيانًا دُونَها، ويُشاهد التَّلفَ في طريقها، فإذا جمع اللهُ بها شملَه تَلَقَّاها مسرورًا مستبشرًا كأنَّه لم يَذُقْ لها مرارة، ولا كابَدَ مِحنة ولا نَصَبًا، إنَّه لأمرٌ إلهيّ، وصُنْع ربَّانيّ، ودلالة لا يَشوبها لبْس ولا تَغْشاها شُبْهة، ولا يَطْرقها تمويه، تُقَوِّي بصيرة المستبصِر وتُسَدِّد فِكْرة المتفكِّر. ومَنْ رزقه الله تعالَى الحُلُول بتلك الأرجاء والمُثُول بذلك الفِنَاء، فقدْ أنعَمَ الله عليه النِّعمة الكبرى، وخوَّله خير الدَّارَيْن: الدُّنيا والأخرى، فَحَقَّ عليه أن يُكْثِر الشُّكر على ما خَوَّله، ويُديم الحم على ما أولاه”.
مكَّة المكرَّمة وادٍ غير ذي زرع، أرضها قاسِيَةٌ، والطَّريق إليها طَويلٌ، تَسلك القافلة إليها دُروبًا مِنَ التِّيه، وتَعْبر حتَّى تبلغها قِطَعًا مِنَ العَذَاب، ومع ما يّذوقه الحاجّ مِنْ نَصَبٍ، ومع ما يُكابده مِنْ مشاقّ= فإنَّه ساعة يَحُطّ رِحاله في أرضها المباركة ينسى وعثاء السَّفر، وتغادره الآلام ويحمد الله – تبارك وتعالَى – أنْ ساقه إلى هذه البَنِيَّة، وطوَى له الأرض طَيًّا، فلا شيْء في العالَم كلِّه يُعادِل تلك اللَّحظة الأولَى الَّتي يَتَمَلَّى فيها المسلم جَمَال الكعبة.

يقول العالِم الهنديّ مولانا رفيع الدِّين المرادآبادي حِين رأى الكعبة المشرَّفة:
“وتَجَلَّى لي جَمَال الكعبة، ألقيْتُ عليها نظرةً واحدةً، فإذا بمتاعب السَّفَر قدْ زالتْ، وإذا بمصائبه قدْ تلاشتْ، ولم أعُدْ أشعر بما كنتُ أُعاني مِنْ مشقَّة، نتيجة المشْيِ على الأقدام بملابس الإحرام، تحت وهج الشَّمس المحرقة، وعلى الرِّمال الملتهبة، مسافةً تزيد على اثنيْ عشر كيلو مترًا. إنَّ نظرةً واحدةً لجَمَال الكعبة المشرَّفة، أزالتْ عنِّي جميع متاعبي السَّابقة، وسوف تزول بإذن الله أيَّة متاعب لاحقة إلى أن يتوفَّاني الله ربّ العالمين”.
[/JUSTIFY]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى