ظاهرة العنف ضد الأطفال أصبحت عرفا ومرضا متفشيا بشكل مريب في مجتمعاتنا ليشمل كل طبقات المجتمع وبدون استثناء ، بل أنه أصبح الوجه الحاضر القبيح على مسرح حياتنا اليومية ، ليشكل انتهاكا صارخا وفاضحا لكل القوانين والشرائع السماوية والأرضية على حد سواء ، بل تعدى الأمر بتباهي الكثير من معتوهي العقول بقهر من هم أضعف منهم وخاصة النساء والأطفال ؛ ولو كانوا فلذات أكبادهم بقصد فرط التأديب أحيانا وذلك بحس التملك الذي يعتقده بعض الآباء ، ناهيك عن العنف التي تلحق بهم من دوائر أخرى قد تكون رسمية وذلك تحت ذرائع مختلفة وحجج شتى..
إن من غايات وأهداف بعض المتسلطين جعل الخوف سلاح رادع للأطفال على المستوى العام ، أو وسيلة تخويف اجتماعي لإرضاخ وتطويع العقول الطرية للأجيال وتدريبها على السمع والطاعة العمياء .. لقد أصبحت ثقافة الخوف والتخويف بل التهديد المباشر للأطفال جزء من ثقافتنا اليومية ، لتخمد بذلك أي شعلة ذكاء خاصة إذا ما كان العنف موجها لأولى لبنات بناء المجتمع ..
فلا أحد ينكر طرق وألوان العقوبات المهينة المختلفة في البيت الحاضنة الأولى للطفولة والمدرسة الحاضنة الثانية لها أو في محيط الطفل ، والذي يتعرض فيه الأطفال لشتى صنوف العنف ، فقد يتعرض الطفل لتعامل وحشي من قبل بعض أفراد أسرته نتيجة تعرض الأسرة ذاتها لمشاكل مختلفة أو لأسباب صحية تتعلق بالشخص المعنف من ذوي الطفل .. أما في المدرسة فقد يتعرض الطفل لعقوبات مبرحة وقد يتلقى الطفل العنف حتى من رجال الأمن أو السلطة ، حيث من واجب هؤلاء جميعا الشرعي والقانوني والأخلاقي حماية الطفولة لا تدميرها ..
تتفاوت درجات العنف هذه من الإهمال والتمييز وسوء المعاملة إلى السخرية والازدراء والإهانة النفسية ، بل التعدي على العنف الجسدي المباشر ما يؤدي إلى أذية نفسية أو جسدية أو كليهما معا .. وحيث أن العنف الجسدي هو الظاهرة الأكثر شيوعا ووضوحا في مجتمعاتنا فقد ترى ضرب الأطفال وسحلهم حتى في الأماكن العامة وعلى مرأى من الجميع دون أن يتحرك طرف لمن يشاهد المظهر والمنظر ، اعتقادا منهم أنه أمر يخص ولي الأمر فقط ، فهو من يملك حق التصرف الحصري في طفله ولو جرى هذا في بلد متحضر لتفاعل معه كثير من الحضور بمنعه وتبليغ المؤسسات المختصة بحماية الطفولة بذلك ..لأخذ التدابير اللازمة ومعالجة الأمر وحماية الطفل بينما في بلادنا قد يؤدي ضرب الأطفال إلى اعاقات جسدية أو ذهنية مستديمة ولا يعاقب عليها المجرم ولي الأمر .. أما عقوباته داخل جدران البيت والتي تتم بصمت وبأشكال مختلفة يضرب فيه الطفل ويهان كيفما اتفق وأينما اتفق دون أن يتحمل مرتكب المعصية أي عقوبة .. بل أصبحنا في عصر يتعدى فيه الأمر إلى قتل الطفولة ذاتها بشكل واسع ومباشر في النزاعات الحربية .. فشاشات التلفزة تنقل لنا ذلك مرات عديدة يوميا دون أن يحاسب القتلة ودون أن يقوم من يستطيعون إيقاف هذه الجرائم بواجبهم للتصدى للمجرمين ووضع حد لهم ومحاكمتهم فقتل الأطفال وتشريدهم مستمر دون اتخاذ أي إجراء يذكر لحماية هذه البراعم التي لا يمكن أن تقاوم عنف المجرمين ، أما تجريدها من أبسط حقوقها في العيش الآمن وبسلام فقد أصبح ظاهرة تنام على ايقاعها ضمائر المؤثرين في المشهد بينما يتعرض الأطفال لأبشع أنواع العنف ..
أما حرمان الطفولة من حق التعليم اصبح ظاهرة معتادة ، والمطالبة بها أضحى نوعا من أنواع الترف .. إن حرمان الأطفال من حقوقهم في الضمان الصحي والطعام والمشرب والملبس تعودت عليه عيون الناس وضمائرهم ، بينما يستنفذ المتنفذون في السلطة كل خيرات البلاد والعباد دون أن يرف لهم جفن لحاجات أول ركيزة من ركائز المجتمع ، وإعطاءها أدني درجات الاهتمام لحاجاتهم الضرورية غير آبهين بأن تهديد صحة الأطفال النفسية أو الجسدية قد تؤدي إلى تهديد كيان المجتمع ذاته بل قد يقود إلى تفكيكه وتلاشيه ..
لا يخفى على أحد حجم جريمة التحرش الجنسي للأطفال فهذه الجريمة تعد أشد الجرائم قسوة وتأثيرا في نفسية الطفل ويزداد الأمر خطورة عندما يسكت أو تسكت كل الأطراف عن مثل هذه الجرائم المقترفة فيلتزمون جريمة أخرى هي جريمة الصمت والتكتم على الجريمة لكونها قد تسبب العار وتلطخ السمعة .. أما وأنها تقتل الطفولة ذاتها ” فلا بأس ” .. ناهيك عن خطورة الأمر إذا ما حصل ذلك من مجرم داخل الحاضنة التي يعيش فيها الطفل ..
أما الاتجار بالأطفال أو استغلالهم في العمل نتيجة لحاجتهم وحاجة ذويهم بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة وازدياد معدلات الفقر والجهل أو لأسباب أسرية أو اجتماعية .. فظاهرة استغلال الأطفال أصبحت يومية اعتادت عليها عيون الغافلين واستساغتها قلوب المستفيدين والمستغلين ..
وهكذا تعيش الطفولة في خوف وقهر بل وتتعرض لكل أشكال العنف والذي ذكرنا بعضا من جوانبه وما لذلك من تداعيات على نمو وتطور الأطفال .. فمن انعكاسات الشعور بالخوف أو تداعيات العنف وعقله الطري زعزعة النفس إلى درجة الشعور بتهديد حياة الطفل ذاتها وما يترتب على ذلك من مخاطر تهدد نظام حياته وبما أن الأمر يتعلق بالبذرة الرئيسية الأولى للمجتمع فإن الارتدادات والعواقب لهذا العنف قد تكون مدمرة فعلا .. تبدأ من انخفاض درجة احترام الطفل لنفسه إلى انهزامه النفسي أمام ذاته .. نتيجة للصراعات النفسية والتوترات الداخلية الناتجة عن كل مصادر العنف وبأشكاله المختلفة ، سياسي والأمني والتربوي والاجتماعي والتي تجاوز كل إمكانيات الاحتمال المعقول للعقول الناشئة بل حتى الناضجة بعد تخطي كميات العنف المتلقاة لكل عتبات الاحتمال .. إن كل هذا قد يخلق شخصا انهزاميا مهزوزا وبما أن الأمر يتعلق بالطفولة بشكل عام فقد نجد أمامنا جيلا انهزاميا كاملا / لكن قد يخلق أحيانا شخصيات تسلك سلوك ضارة مجتمعيا وصحيا كالتدخين والمسكرات أو تعاطي المخدرات .. وقد يتعدى الأمر لخلق شخصية عنيفة تميل لارتكاب الجريمة وذلك بعد عدم مقدرة الشباب لاحقا على حبس شعورهم بالظلم فتتفجر هذه الصدور بالطاقات السلبية لتتحول إلى سيل جارف يدمر ويزيل من أمامه كل شيء .. ناهيك عن التفاعلات السلبية في التفاعل المجتمعي نتيجة لهذه الأساليب القمعية المغلوطة والهدامة لشخصية الطفل التي تقود إلى الخلل في السلوك فيفقد الثقة بالنفس ولا يستطيع تحمل مسئولياته فينطوي على نفسه مكتئبا محبطا وقد ينعكس ذلك على تحصيله العلمي نتيجة تشتت الأفكار وعدم التركيز وهذا في أفضل حالات انعكاس العنف على نفسيته .. لقد أصبحت ظاهرة العنف ضد الطفولة منتشرة في أوساطنا وعلى مستويات عدة ، فناقوس الخطر يهدد قيام مجتمعاتنا ذاتها واستمرارها ..
يجب العمل وعلى جميع الأصعدة لإغلاق معامل العنف هذه وتريدها من فقه التعسف والعنف المتشرعن في بيئتنا والتي تقوم على قهر الأجيال وعدم الاكتفاء بالتوصيات الرنانة والشعارات البائتة الباهتة بل العمل وبقوة على تفكيك هذه العقدة المزمنة في ثقافتنا العنفية تجاه الطفل والأضعف لتحويل هذه الطاقات المقهورة إلى طاقات نافعة وقائدة للمجتمع وذلك بسن قوانين نافذة تحمي الطفولة وتشرع فائدة الأجيال ومنها زيادة الموارد المخصصة لحماية الطفولة لتشمل قوانين وسياسات ولوائح وخدمات وقيام متخصصين علميين لدراستها ومتابعتها وإيجاد الحلول المناسبة لها وإدارتها وكذلك بإقامة دورات تثقيفية توعوية على مستوى جمل المؤسسات الاجتماعية وخاصة الرعاية الصحية والتعليم والصحة والأمن وذلك لتنمية وتطوير المهارات والقدرات التربوية لمختلف شرائح المجتمع لرفع مستوى الوعي بكيفية التعامل مع الطفل والتعريف بحقوقه وكذلك التنبيه إلى مواطن العنف ضد الطفولة وإرغام وسائل الاعلام بتبني نشر ثقافة حمية الطفولة كأحد برامجها الثابتة كشرط لإعطائها موافقة أو رخصة عمل أما لمعوقين فيجب علاجهم من قبل المؤسسات الحية المختصة وهكذا يتشكل جيل صحي يمكن أن تبني عليه أوطان قوية ومتقدمة في بيئة فكرية ايجابية متناغمة ومتزنة تعيش وتتنافس فيها العقول في الابداع في مجتمع يحترم انسانية الانسان اولا ولننافس الأمم في الرخاء والسعادة لا القهر والعنف والإبادة فالأطفال هن مستقبل أي امة وعم دعائم غدها ولا يمكن ربط أي تقدم مجتمعي إلا بهم .. فخلق بيئة ايجابية حاضنة للطفولة من ضرورة الضرورات .. أن حماية الاطفال ومظاهر سعادتهم تشكل المرأة التي تعكس حضارة أي مجتمع.. جميل احترامي
د. محمد خيري آل مرشد