قريبأ من (الملتزم) وهو من اماكن استجابة الدعاء ببيت الله الحرام استمعت لأنينه وشكواه وهو يبثها لمولاه الحي القيوم رب البيت العتيق
ويقول(اللهم يسر لي بيت اسكن فيه ولا تخرجني من بلدك الحرام) وبعد ان انهى بث همه وشكواه ,تراجع للخلف ليدع المكان (الضيق) لمهموم آخر وهم مختلف , فاقتربت منه رغم شدة الزحام وأخبرته ان هذه الاماكن المباركة من اماكن استجابة الدعاء في بيت ملك الملك , وان الوصول اليها ليس بالامر السهل وقلت له انه كان اولى به ان يسأل الله تعالى الجنة , فالتفت الي والدموع تنحدر من عينية وقال( انت لاتعلم حجم الهم الذي انا فيه ) فذهبنا بعيدا عن الازدحام حيث اخبرني انه مقيم ( من جنسية عربية)في مكة منذ اكثر من اربعين سنة, وأن معظم ابناءه ولدوا فيها ولا يعرفون غيرها وغير اهلها, وقال ان مشكلته ليست في نظام الاقامة او العمل اوخلافه وانما هي في السكن , وقال ان معظم الاحياء التي كانت تناسب ظروفنا , والتي يتراوح قيمة السكن السنوي فيها من 8-12 الف ريال, اصبحت شبه نادرة , بعد مشاريع تنظيم الاحياء العشوائية بمكة مما يهددنا بالرحيل , وقد علمت ان هذا هوحال الاف من الاسر الفقيرة ومتوسطة الدخل في مكة المكرمة من غير السعوديين وحتى لفئة من السعوديين, حتى ان بعضهم يسكن في الحرم مؤقتا مع اهله.
ونحن اذ نؤيد مشروعات تنظيم الاحياء العشوائية بمكة , بل نعتبره عملا جريئآ لا يقترحه وينفذه الا اصحاب الهمم العالية, وصنفناه في مقال سابق لنا من ضمن مظاهر تعظيم البلد الحرام , الا انه ينبغي البدء بأحد الاحياء العشوائية وتنظيمها , وتنظيم عملية الاهتمام بساكنيها السابقين ضمن آلية الاهتمام بالانسان المسلم التي يوليها سمو امير منطقة مكة اهتمامه الخاص , وعمل تقييم لايجابيات المشروع وسلبياته للاستفادة منها في الحي الذي يليه, فليس من المعقول تنظيم وهدم عشرات الالاف من المنازل في نحو ستين حي عشوائي خلال سنوات قليلة , مع قلة المساكن في مكة المكرمة.
كما ان فقراء الحرم القادمين من خارج المملكة قد استجارو ببيت الله الحرام وبلده الحرام وهربوا من ظلم حكامهم وانظمتهم في تلك البلدان التي قدموا منها, وقد وجدوا كل ترحيب وعون من هذه البلاد المباركة قادة وشعبآ, بدءآ بمؤسس هذه البلاد الطاهرة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله , ومرورآ بابناءه البررة ملوكنا رحمهم الله جميعآ وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ايده الله, ومنهم الاخوة الاركانيون(البورما) والافارقة (التكارنة) واليمنيون وغيرهم.
وهذه دعوة مكية صادقة من جوار البيت العتيق لجميع القائمين على مشروعات تنظيم الاحياء العشوائية في مكة لمزيد من الاهتمام بانسان مكة, وجيران البيت العتيق , ودراسة مقترحنا بجدولة تنظيم الاحياء العشوائية , وان تكون هذه الاستراتيجية واضحة للعيان.
وتذكر لنا كتب التاريخ طرفآ من اهتمام الخلفاء والملوك والرؤساء والتجار والأثرياء بتأمين السكن الملائم والمريح لفقراء الحرم من الرجال والنساء ، فقد اشترت زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد دوراً أوقفتها في مكة للفقراء ومنها دار الأرقم التي كان يختبئ فيها النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه في بداية الدعوة المكية ، ويسميها البعض دار الخيزران .
كما قام عدد من الناس بشراء منازل وجعلها أربطة ومنازل لسكن الفقراء والمحتاجين والأرامل ولم تكن تخلو حواري مكة المكرمة من وجود رباط أو أكثر لهذه الفئات ، ويكون بعضها موقوفاً لفئة من الناس أو حجاج إحدى الدول ، وقد انتشرت هذه الأربطة في عهد الأشراف مثل رباط السيدة، رباط الدمشقية ، رباط الشراب ، رباط كلاله ، رباط ربيع ، رباط الشريف سلطان ، وقد حفر بعضهم آبار للماء في هذه الأربطة، وبعضها تؤجر للحج ويعود ريعها لسكان الرباط ، وبعضها مخصص لطلبة العلم أو لتحفيظ القرآن الكريم أو لحجاج دول معينه ,ويوجد في هذه الأيام أكثر من 60 رباط في مكة المكرمة تشرف عليها وزارة الشئون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية ,كما ورد أن السلطان شاه تصدق على فقراء الحرم نفقات سنة كاملة وقد كان قاضي الحرم الشريف إسحاق بن أبي بكر الطبري يحصل له في كل سنة من الديوان العباسي خمسة وعشرون ألف درهم ينفقها على أهل الحرم وأما الخليل بن عبد الرحمن القسطلاني المكي المالكي إمام المالكية بالحرم فقد كان يجهز في بيته كل يوم خبزاً كثيراً جداً يتصدق به على الفقراء والمساكين ، وكان كثير الإحسان إلى الخلق وكان بسبب ذلك يستدين الدين الكثير وربما بلغ دينه مائة ألف درهم فيقضيها الله تعالى عنه على أحسن الوجوه ، وكان عبد الرحمن الفاسي ينفق في كل يوم على ثلاثمائة فقير ، وقد أوقف جمع منهم أجزاء من غلة أوقافهم على فقراء الحرم وأقاربهم الفقراء ، وكان أحمد بن محمد الطبري عالم محدث يزيد في غذائه من اليوم السادس عشر من ذي القعدة إلى آخر شهر ذي الحجة وكان يأمر غلمانه باستدعاء الغرباء الوافدين لمكة ويطعمهم ويقول : هؤلاء يردون في غاية الحاجة ولا يجدون من يعمل لهم طعاماً وكان يؤخر
عشاء عياله حتى ييأس من وصول أحد اليه ,وكان السلطان مراد الثاني عام 824هـ قد رتب لفقراء الحرم من ماله الخاص راتباً سنوياً مقداره 3500 دينار كان يرسله لمكة سنوياً ، كما أن السلطان بايزيد والد السلطان سليم حاكم مصر يغدق العطايا على أهل مكة ، كما وردت إلى مكة في عهد الشريف عبد الكريم صدقة لفقراء الحرمين من الهند قدرها خمسة لكوك (الك مائة الف )وقد تم توزيعها على فقراء الحرم ، كما كان السلطان سليم يرسل مبالغ عطيه سنوياً توزع على سكان الحرمين .
وقد وصلت إلى مكة في عهده ولأول مرة في تاريخ الجرايات سبعة آلاف أردب منها ألفان للمدينة وخمسة آلاف في مكة ، وكان يتم إحصاء عدد الرجال والنساء والأطفال في كل محله ، ويوضح السباعي في كتابه تاريخ مكة أن عدد السكان في ذلك الوقت كان اثني عشر ألف نسمة ، كما أمر السلطان سليمان بشراء بعض القرى في مصر من أمواله ووقف وارداتها على الغله التي ترسل من مصر إلى مكة سنوياً ، كما كان السلطان مراد الرابع كثير الإحسان إلى أهل مكة .
في عام 1338هـ أسس محمد علي باشا التكيه المصرية وهي مبرة مصرية خيرية ومكان يصنع فيه الطعام ويقدم للفقراء وكانت موقوفه على الفقراء ، وكان يتم يومياً توفير الطعام لنحو أربعة آلاف شخص يتناوبون في أخذ الطعام ، ويزيد عددهم في شهر رمضان حتى آخر ذي الحجة لورود كثير من الحجاج الفقراء من السودانيين والمغاربه وغيرهم ، وكان بها بركة ماء وكان كل شخص يحصل فيها على رغيفين وشيئاً من الشوربه وكان موقعها في أجياد جنوب المسجد الحرام وبجوارها دار الحميدية , وهذه دعوة للاهتمام بفقراء الحرم من جميع الجهات, وشكر وتقدير لجمعيات البر, زمزم الصحية, شفاء, وقف البركة, وقف عبداللطيف جميل وغيرهم من رجالات مكة الذين يهتمون بالفقراء والمساكين, ودعوة لمزيد من العطاء فهولاء الفقراء هم جيران بيت الله , والصدقة فيه مضاعفة ان شاء الله .