خلال تدريسي لمادة الرياضيات ؛ كنت أحرص على أن لا أقدم للطالبات أي نظرية دون المرور بمرحلة توضيح خطوات استنتاج تلك النظرية .. حتى لو طالت تلك الخطوات في بعض الأحيان.
وأحياناً تسألني بعض الطالبات : أستاذتنا .. لماذا لا نحفظ النظرية ونطبقها مباشرة بدلاً من إضاعة الوقت في الاستنتاج ؟
أليس الهدف هو استخدامها في حل التمارين ؟ فلم لا تعطينا (الزبدة) كما يقولون ؟
كما أنها نظرية مثبتة أصلاً ومعمول بها فما جدوى أن نعرف كيف توصل لها مكتشفها ؟
كنت أسعد بتلك التساؤلات وأجيبهن بكل رحابة صدر بأن من وضع تلك النظرية هو بشر مثلنا ولكنه فكر واستنتج .. وبإمكاننا جميعاً أن نفكر ونستنتج فالله عز وجل وهبنا العقل والمهم كيف نستخدمه وكيف نوظفه ؟
كما أنه بحكم بشريته يصيب ويخطئ فدعونا نرى معاً منطقية ما توصل إليه .. ولنتخيل أننا نفكر معه ونناقشه فلربما أضفنا لأفكاره شيئاً جديداً لم يخطر بباله.
وأحياناً كنت أتعمد إدخال خطوة غير صحيحة أو غير منطقية في ثنايا الإستنتاج أو البرهان الرياضي لأرى مدى إدراكهن واستيعابهن . وكنت أحيي بشدة وأكافئ الطالبات المكتشفات لوجود خطأ أو تناقض ضمن تسلسل خطوات الحل.
وما ذلك الاهتمام بقضية البرهان والاستنتاج الرياضي إلا لإيماني بضرورة أن نعلم أبناءنا طرق ومهارات التفكير فهي من أقوى ما يؤهلهم لعدم قبول الأفكار دون الاقتناع بمبرراتها مما يحول بينهم وبين تسليم زمام قيادة فكرهم للآخرين.
في المدرسة نحن لا نعلم الطالب للاختبار فحسب وإنما لننقل أثر ذلك التعلم لواقع حياته كلها. و ما يجري داخل غرفة الصف وفي حدود مبنى المدرسة ما هو إلا نموذج مصغر لما يجري في بحر الحياة الواسع ، فإن لم يتدرب الطلبة ويتقنوا فن السباحة هناك سيغرقون مستقبلاً في أمواج بحر الحياة المتلاطمة.
ولذا فإنه إذا تعود الطالب داخل الصف على تقبل كل ما يطرح عليه دون نقاش أو تبرير فإنه سيسلك المسلك ذاته في شتى مناحي الحياة ، وعندها يخشى عليه أن يصبح كالإسفنج يتشرب ويمتص كل الأفكار المحيطة به ؛ ولا يميز بين البناءة منها والهدامة ، المهم بالنسبة له أن من يبث تلك الأفكار أشخاص ذوي قيمة في نظره.
ولا يفوتنا التنويه لأهمية دور الآباء في تلك التربية الفكرية السليمة ، بل تقع تلك المسئولية الكبرى على عاتقهم في المقام الأول ، ويتوجب عليهم أن لا يسعوا لفرض أفكارهم على أبنائهم ولا يفرحوا بالطاعة العمياء وقول (نعم) من الأبناء باستمرار دون نقاش ؛ فذاك مؤشر خواء فكري ويخشى على ذلك الفراغ من أن يملأ بأفكار مدمرة .
فعلى الوالدين تعويد أبناءهم على إبداء الرأي بأدب ومجابهة الفكر بالفكر حتى يصلوا للحق عن قناعة. كما أن لهما دوراً كبيراً في متابعتهم حتى لا ينحدروا لأي من جانبي التطرف ويصبحوا لقمة سائغة وأداة طيعة في أفواه وأيدي أصحاب التيارات الفكرية الهدامة .
إن دور الوالدين في تربية أبنائهم ورعايتهم فكرياً ينبغي أن تأخذ حقها من الوقت والجهد والتأهيل فدورهم وواجبهم أسمى من التركيز على الرعاية البدنية وتوفير متطلبات الحياة المادية.
فعلينا جميعا نحن المربين في إطار تنشئة فكرية سليمة لأبنائنا أن نربيهم وندربهم على قول (لماذا ؟) في وقتها المناسب وللشخص المناسب ، وعدم قبول الإجابة إلا بعد عرضها على العقل والتفكير فيها بإرجاعها للحق بعيداً عن الهوى والمصالح الشخصية مع اليقين بأن لا تعارض بين سليم العقل وصحيح النقل ، وأن كل بشر يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
مقال رائع ومتميز
استطعتي من خلال تخصصك استثارة الطالبات في معرفة الحقائق والبراهين كيف كانت وكيف بُنيت دون التسليم بشيء مباشرة. مما يثير عندهن حب السؤال والاستفسار لماذا وكيف.. وهذا مما يسعدهن على إدارة الأمور الحياتية لهن بأدب وتخلق رفيع دون القبول بالأمور بسذاجة وعفوية.
دمتي بخير وسعادة
لا جف قلمك ولا نضب فكرك
ونفع الله بعلمك ورفع قدرك
مقال رائع ومتميز
استطعتي من خلال تخصصك استثارة الطالبات في معرفة الحقائق والبراهين كيف كانت وكيف بُنيت دون التسليم بشيء مباشرة. مما يثير عندهن حب السؤال والاستفسار لماذا وكيف.. وهذا مما يسعدهن على إدارة الأمور الحياتية لهن بأدب وتخلق رفيع دون القبول بالأمور بسذاجة وعفوية.
دمتي بخير وسعادة
لا جف قلمك ولا نضب فكرك
ونفع الله بعلمك ورفع قدرك