بالمرحلة الثانوية ، تغيبت يوما عن المدرسة ، فغادرت البيت مبكراً وأنانأناأن مستاء ، بسبب خلاف وقع مع زميل بالصف ، كان سبب غيابي هو الذهاب إلى المستشفى والتبرع بالدم من أجل رخصة القيادة المؤقـتة ، وبينما كنت ممداً على السرير الأحدب ، زارني شعور من الخوف ، فقد كانت الأولى وسأرى دمي ينساب أمامي ! كان رأسي مائلاً نحو الأسفل وقدماي للأعلى ، أما يدي فكانت أسيرة لدى الممرض ، فأخذت جولة بعينيّ في الغرفة الكبيرة ، وإذا بزاويتها هيكل عظمي كبير ! فقد أصابتني رعشة وهول من منظره.
كان الهيكل بمقاس الرجل الطبيعي، وكان متدلياً شنقاً برباط من القماش ، لأن القاعدة التي كان واقفاً عليها بدت مكسورة ، فاجتاحني شعور خاص تجاهه ، فهو الأن لا يمتلك أي شيء سوى الحبل الملتف حول عنقه ، أحسست بضعفه ، وانكسار شخصيته أمام الجميع ، ربما هي هلوسة بي من أبره التبرع ، لكن سأخبر بما عشته ، فلقد أحسست إنه يشتكي لي منذ النظرة الأولى ، لكنه عاجز عن الإفصاح والكلام ، أمضيت دقائق وأنا أحدق فيه وهو يبادلني نفس الشعور ، فسألت الممرض العربي بالغرفة إستعباطاً كما يقال : هل هذا الهيكل حقيقي أم اصطناعي ؟ فأجاب اصطناعي بالتأكيد، فقلت وهل هناك فرق يجعلك تقول بالتأكيد ، فقال : نعم ، أنظر بالأسفل ، تجد الماركة وأسم الدولة المصنعة ، فعاودت الكلام : لقد قرأت ان بعض مستشفيات الدول الفقيرة تستعمل هياكل حقيقية لأنها أرخص ، فلم يجبني وأنصرف .
بعد وهلة حضر أخصائي آخر ، فسألته نفس السؤال ، فقاطعني بطريقة حادة وصلفة وبدون رضا : وماذا يهمك في الموضوع ! هل أنت باحث في علم الإنسان؟ فأجبته بلا ، لكن أنا باحث هاوي في تاريخ وجغرافية الإنسان ، فقال لي ما الفرق ، أنت بتهزر ! ” بلهجته ” ، فقلت : أنا أتكلم بجد : أنت تعلم بما يجري بداخل الإنسان ، وأنا أحاول أن أعلم بما جرى خارج الإنسان ، فقال لي وبصوت منخفض وبلهجته : أسمع ! بقولك حاجة بس توعدني ما تقولش لحد ، الهيكل ده اللي واقف أصادك ، إنسان حقيقي جايبنو من نيبال ، بس هو مختوم بختم دولة غير وأنو مش طبيعي ، وإحنا بنقول للناس المزعجين زي حضرتك إنو صناعي ، فهمت دي الوقـتي .
الدم ما زال يخرج من جسمي نحو الكيس الأحمر ، جلست أفكر وأنظر للهيكل الذي أمامي ، ودموعي واقفة تريد التحرر من بين جفني ، فكلمت نفسي : هل تصدق إن هذا الهيكل الذي أمامك كان يوماً يهز الأرض في مشيه ، فربما كان قاتلاً ومتعطشاً للدماء ، أو مزارعاً كان يحتسي الشاي مع أولاده ، أو ربما سفاحاً ظلم القاصي والداني ، أو لاعب كرة ، أو صياد ، أو عاشق يتلو الشعر ، أو مدير مدرسة أو أميرة قبيلة وعزيز قوم ، والكثير من الأمور التي تخيلتها ، والآن هو واقف أمامي لا حول له ولا قوة ، كالصنم دون حراك ،لا يفقه ما أقول له ، ولا يدافع عن نفسه .. لكن ما الفرق بيني وبينه ؟ أنا فقط مكسو بلحم وجلد! إذا لماذا أخطأت على زميلي بالمدرسة من أجل سبب تافه ؟
نحن تائهون بهذه الحياة دون أخذ وقفة نفكر بها من نحن ، وأين نحن ، وماذا نريد ؟ إن بنا غرور وغطرسة ، ومتسلحين بهذا الجسم الرخيص الهزيل ، إنها مجموعة من العظام البالية ، والمغطاة باللحم الذي تخترقه النملة والبعوضة ؟ لماذا نبطش ونقـتل ونشرد غيرنا من البشر الذين لا نعترف بوجودهم معنا شركاء على الأرض ، لماذا أظلم وأغضب الله والبشر ، لماذا أسرق ، لماذا أرتكب المعاصي الدنيئة ؟ لماذا أتحول إلى وحش أحقر من الحيوان ؟ ولماذا أكون حقيراً ووضيعا ، فكلنا هياكل عظمية ، وسنصبح يوماً كهذا الواقف أمامي ، أو ربما هو أكثر حظاً منا ، فبعض الظالمين لم يمتلكوا حتى القبر، أو حتى حفنة من العظام البالية ، وقد رمتهم أعمالهم الشيطانية العفنة بمزبلة التاريخ ، وبالنهاية سنوضع في لحد من تراب يجعلنا كلنا متساوون ! وستنخر اللعازة عيوننا الجميلة ولحمنا وعظامنا .. إذا !! الذي يميزني عن باقي البشر، هو عملي وبصماتي وآثري ، وهذا يعتمد على عقلي وأخلاقي وثقافتي .
أثناء خروجي ترجلت أمام صديقي الهيكل ، فمددت يدي أسلم عليه ، استسلاما مني واعترافا بضعـفي ، فلمحت ثقباً كبيراً في كفه اليمنى وأنا أتفحصه ، فسألت الممرض ، فأجاب : طبيعي أن تجد ثقباً بكفه ، أو شرخاً بجمجمته ، لأنه بقايا حروب وصراعات غبية ، وغالباً عدم تفكيره وجهله هو سبب وجوده هنا ، بحروب لا ناقة له بها ولا جمل ، فهو هو من دفع الثمن غالياً .. فاتخذت الصمت أجابه ، وسالت الدمعة ، وغادرت المكان ، وأعلنت يومها أني متصالح مع الله أنه ربي الخالق الرازق وأنا العبد ، وتصالحت مع نفسي ، أني أعرف ما أريد ، وتصالحت مع من حولي ، أني لا أقصي أحداً، وأعترف وأحترم بمن يختلف معي فكراً ولوناً وعقيدة ، ثم توجهت إلي صديقي كي أعيد المياه إلي مجاريها .