إن معظم أبناء هذا الجيل محظوظون ؛ ليس لأنهم ولدوا وفي فمهم ملاعق من ذهب .. بل لأنهم ولدوا وفي أيديهم أجهزة ذكية .. تلك الأجهزة التي تفتح لهم بوابة الدخول إلى عالم التقنية الواسع الأفق , وتضع بين أيديهم معلومات ومعارف لم تكن متاحة حتى للعلماء في أزمنة مضت.
إن أبناءانا يعايشون عصر ثورة وثروة تقنية ؛ لو أحسن استخدامها لأصبحوا جيلاً فائق التميز , في حين أن إساءة استخدامها تنتج جيلاً فاقداً للقيم . فالمهم هو كيف نستثمر فوائد تلك الأجهزة ونتجنب مخاطرها ونعلم أبناءنا كيف يصبحون (أذكى) من أجهزتهم الذكية.
عندما يكبر أبناؤنا أمام أعيننا نحرص على تعليمهم كيف يتعاملون مع كل الأدوات (ذات الحدين) التي لابد أن يتعاملوا معها في حياتهم بتدريبهم على الطريقة الصحيحة لاستعمالها وكيفية تجنب مخاطرها , مثل السكين الذي لا غنى عنه ولا يمكن استبعاده من المنزل , فوجوده مع احتمال الخطر أفضل بكثير من التخلص منه .. فعجباً للآباء عندما يسلمون أبناءهم مفاتيح التقنية وأدواتها وأجهزتها دون توجيه أو تحذير أو حتى رقابة ؛ استهانة بمخاطرها .. ربما لأن تلك المخاطر (بطيئة المفعول).
إن استخدام أبناءنا للتقنية أمر لا بد منه , وشغفهم بها أمر طبيعي .. أما دور القائمين على التربية في المنزل والمدرسة فهو (التوجيه والترشيد) لضمان حسن الاستخدام وتحجيم ذلك الشغف فلا يصل لمرحلة الإدمان .
إن بداية التوجيه تكون بأن نغرس في نفوس أبنائنا أن قيمة الإنسان ليست بما يملك وإنما بما ينتج .. لينتجوا لنا بتلك التقنية تميزاً علمياً وابتكارات تملأ الدنيا .
ثم نوجههم للمواقع المفيدة والممتعة معاً , مثل ارتياد المكتبات الرقمية والمواقع العلمية الموثوقة وحضور الدورات التدريبية عن بعد والمشاركة في المسابقات المفيدة وتعلم اللغات وغيرها , وبذلك نجنبهم أن يكون البحث عن المتعة المجردة هو غايتهم ؛ فتلك حافة الهاوية.
وكم هو حيوي ذلك الدور المناط بالمدرسة في التجديد والإبداع في التكليفات المنزلية التي تستثمر حب الجيل للتقنية ؛ وتوجه طاقاتهم لإبداعات تفيد المجتمع والوطن بدلاً من هدر الأوقات في مواقع التواصل الإجتماعي مابين الشائعات والأكاذيب واختراق المواقع والحسابات .
ومن التوجيه الضروري الذي ينبغي أن يبدأ مبكراً تعريف الأبناء بحدود خصوصياتهم التي لا ينبغي عرضها للآخرين .. وألا يضيعوا جمال اللحظة من أجل تصويرها .. والتأكيد عليهم بأن لا يضعوا أنفسهم في مواقف تعرضهم للابتزاز .. ولا بد أن نغرس في عمق ضمائرهم أن ترك إغاثة المحتاج من أجل تصوير المشهد هو قمة اللاإنسانية .
أما الترشيد فبدايته بإدراك الأبوين أن تسليم الأجهزة الذكية للأطفال في سن مبكرة خطأ جسيم , ولا أظن أن هناك من يجهل أخطار تلك الأجهزة على صحة الأطفال الجسدية والنفسية . وليت المؤسسات الطبية والمعنية بحقوق الطفل تتحد لإصدار قوانين تحدد السن المناسب لبدء تعامل الأطفال مع تلك الأجهزة وتحاسب الآباء الذين يخالفونها ؛ أولئك الذين يشترون راحتهم بإلحاق الضرر بأجساد وأذهان أولئك الأبرياء.
كما أن الترشيد لاستخدام التقنية لن يحصل ما لم يقتنع الأبناء بأن الإسراف في استخدام التقنية يهدر الوقت , كما أنه بقدر ما يقرب البعيد فإنه يبعد القريب ويظهر ذلك جلياً في ضعف التواصل الاجتماعي داخل الأسرة الواحدة.
إن الترشيد في استخدام التقنية هو دور الأسرة في المقام الأول خاصة في أيام الإجازات , فلا بد من تحديد ساعات معينة يقضيها الأبناء أمام الأجهزة الذكية حتى لا تسرق أوقاتهم وصحتهم ونشاطهم.
ومن المقترحات المعينة على ترشيد استخدام التقنية
· القدوة : فإذا كان أحد الأبوين أو كلاهما يقضي معظم وقته أمام تلك الأجهزة , فاحتمال استجابة أبناؤهم لترشيد التقنية ستكون ضعيفة.
· اللقاء الأسري : كم هو جميل أن يكون هناك لقاء أسري دوري تجتمع فيه الأسرة (الأفضل بدون أجهزة) للحوار وتبادل الآراء حول المواضيع المشتركة أو مناقشة قراءات لبعض الكتب المختارة , أو بعض المسابقات الذهنية الخفيفة في جو يسوده المرح والألفة .
· الرحلات : وتتنوع بين العائلية والمدرسية وأخرى تنظمها مؤسسات متخصصة ومعتمدة مثل مراكز الأحياء وتتضمن تلك الرحلات المساهمة في الأعمال التطوعية .
· بدائل داخل المنزل : ومنها المشاركة في الأعمال المنزلية والألعاب الحركية الخفيفة وأنشطة تنمي الهوايات والمواهب كالقراءة والرسم .
وعموماً ترتكز فكرة الترشيد على ترك الأجهزة جانباً لفترات تطول تدريجياً مع إيجاد البديل المناسب بحيث يكون مفيدأ وممتعاً ويبقى أثره في نفوس الأبناء . فعدم وجود البديل المناسب يجعلهم يتعلقون بالتقنية بشكل أكبر . ومن المهم تحديد أوقات يمنع فيها استخدام الأجهزة لغير ضرورة ملحة كأوقات الطعام والزيارات العائلية .
كما أن مشاركة الأبوين لأبنائهم في عالم التقنية كالتفاعل معهم في مواقع التواصل الإجتماعي , أو المشاركة في مشاهدة مقاطع وأفلام هادفة أو رحلات علمية افتراضية ؛ كل ذلك من شأنه أن يخفف من عزلة الأبناء وانغلاقهم على أنفسهم .. كما يتيح للأبوين فرصة التوجيه في جو من الصداقة والود .. ويمنح الأبناء فرصة اكتساب مهارات الحوار والنقد البناء وتمييز الغث من السمين فيما يقرأون أو يسمعون أو يشاهدون ؛ وبالتالي يميزون ما ينبغي نشره في مواقع التواصل وما لا ينبغي .. لأننا نريد جيلاً واعياً ينتقي ما يطلع عليه وما ينشره .
لقد بتنا في عصر لا يسمح أبداً بوجود آباء أو معلمين يجهلون عالم التقنية ؛ كيف نربي أبناءنا ونحن في واد غير واديهم ؟
البعض يقول .. ليتنا نعود لعصر ما قبل التقنية.
تلك أمنية لن تتحقق .. ولو افترضنا إمكانية تحققها فهي ليست الحل ..
فالسكين يقتل ولكنه موجود بمطبخ كل بيت ..
المهم أن يوقن أبناؤنا بأن من لا يحسن استخدام السلاح ؛ سيدمر نفسه قبل الآخرين.