المقالات

الكشف الطبي والعم سليم

الكشف الطبي والعم سليم
طارق عبد الله فقيه

[JUSTIFY] كان العم “سليم” جارنا في الحارة، ولديه مركاز هو الأشهر في حارتنا بامتياز، يزوره فيه الأصدقاء القدماء، ويتبادلون الحديث من العصر حتى المساء، وهو بلقائهم دائمًا يعيش سعيدًا، يرحب بالعم زيد والعم عبيد، وهم ينادونه ” يا سليم يا سليم”، ويبش العم سليم للجميع فالرجل شهم كريم.
أما الكشف الطبي؛ فهو كما لا يخفى على أحد هو عبارة عن ورقة رسمية تُوضع في أعلاها صورة شخصية لطالب الكشف، وفيها مجموعة من البنود الطبية، مطلوب تعبئتها بعد الفحص بكل مصداقية . ومن بنودها : سلامة النظر والنطق والسمع والخلو من الأمراض المعدية، وفيها فحص للفم والأسنان والجهاز الهضمي والحركي، كما تحتوي على مجموعة واسعة من التحاليل الطبية .

وبداية من دخول الطفل للروضة ومرورًا بالمدرسة والمعاهد والكليات والجامعة، ووصولًا للوظيفة أو للترشح للعمودية أو مشيخة القبيلة، أو غير ذلك مما سبق أو لم يسبق، والكشف الطبي يعتبر أحد أهم مسوغات القبول، ووجوده في غاية الأهمية؛ لإكمال الإجراءات النظامية .

والكشف الطبي فرصة جيدة؛ ليتعرف صاحبه قبل الجهة الطالبة له على حالته الصحية، ويطمئن على جاهزيته البدنية والنفسية للمهمة الجديدة التي ينوي خوض غمارها، إذا ما تم إجراء هذا الكشف بعناية، وأخضع صاحبه للكشف الدقيق والفحص الشامل.

ولكن للأسف فإنّ السمة المشتركة لغالبية هذه الكشوف الطبية هو تسديدها بعبارة مألوفة وهي “سليم”، فالنظر سليم والسمع سليم والنطق سليم وهكذا بقية الأجهزة المطلوب فحصها، حتى يتهيأ لك أنهم ينادون على العم سليم صاحب المركاز طيب الذكر.

ويكتفي غالبًا الطبيب مجري الكشف بنظرة خاطفة وسريعة لطالب الكشف، يُتْبِعُه بسؤال : هل تُعاني من أي مشاكل صحية ؟ ويأتي الجواب المنتظر سريعًا : لا أعاني من شيء، لتسطر كلمة ” سليم ” في فراغات الكشف الطبي أشبه بالزخرفة هنا وهناك، ثم توقيع الطبيب ومدير المركاز الصحي والختم وقضي الأمر !

ويُكتَشَف بعد وقت من تقديم هذه الكشوف السليمة أنّ كثيرًا من الأطفال في المدارس يُعانون من مشاكل في الإبصار أو في السمع أو في النطق، يتم اكتشافها مصادفة من أحد المعلمين، ويُشعر بها ولي الأمر ليقوم بعلاج ولده، ولا قيمة للكشف الطبي المرفق بملف الطالب .

ولو توقف الأمر عند هذه المشاكل الطبية في النظر والسمع والنطق لهان الأمر، لكن الدواهي تظهر جليًا بعد قيام البعض منهم بالانتحار أو بارتكاب حادثة جنائية مفزعة لا قدر الله كقتل أولاده أو والديه أو زوجته، لنقرأ بعدها في الصحف أن الجاني كان يُعاني من اضطراب نفسي، ولأن الكشف الطبي لا يفحص الحالة النفسية لطالب الكشف، ظل الجاني وهو المجني عليه كذلك ظل يُعاني من مرض نفسي ولا يتلقى أي علاج، وبرر المحيطون به حالته بالمس تارة وبالعين تارة أخرى وضاع المسكين بين تخميناتهم وتخرصاتهم، حتى إذا وقع الفأس في الرأس، تنبهنا بعدها أن هناك أمراضًا نفسية تصل بأصحابها لإيذاء أنفسهم وأقرب الناس إليهم .

والسبب في كل ذلك في تصوري يعود للكشف الصوري “العم سليم” والذي لا يولي الحالة النفسية لطالب الكشف أي عناية أو اهتمام، ولا يوجد أطباء نفسانيون يقومون بالكشف على المتقدمين، والحكم بسلامتهم من الأمراض النفسية .

وتتعذر المراكز الصحية بالضغط الذي تتعرض له لكثرة المراجعين، وعدم وجود المتخصصين في أمراض العيون والأسنان والصحة النفسية وغيرها، ولعذرهم أحيانًا وجاهته .

لكن وزارة الصحة قادرة على إقامة مراكز فحص متخصصة ومتطورة تتولى مهام إصدار الكشوف الطبية الدقيقة للمتقدمين، ويجب أن تضم هذه المراكز المتخصصين في جميع الأمراض، وينبغي أن يكون لها صلاحيات تحويل من يحتاج للعلاج السريع للمستشفيات، وكما نسمع من أهل الطب أن اكتشاف المرض مبكرًا يُساعد في فُرص العلاج والشفاء التام بإذن الله، وينبغي أيضًا أن يكون لها صلاحية إخضاع أصحاب الأمراض النفسية للعلاج ولو بالقوة، حتى لا يشكلون خطرًا على أنفسهم وأسرهم والمجتمع، كما ينبغي أن يكون لها صلاحية تحويل من يتم اكتشاف إدمانه للمخدرات لمصحات العلاج المتخصصة، ودق ناقوس الخطر مبكرًا للمتعاطي وأسرته وللمجتمع .

وكما نجحت وزارة الصحة في ضبط التطعيمات الأولية للمواليد، ونجحت في الكشف المبكر للمقدمين على الزواج والكشف الجيد على العمالة القادمة من الخارج، قادرة هي أيضًا بعون الله على إقامة المراكز المتخصصة التي تُساهم في التشخيص المبكر للحالات الصحية، وتصبح عبارة “سليم” هي تشخيص دقيق لحالة صحية، وليست مجرد تسديد فراغات لا تسمن ولا تغني من جوع .. نتمنى .[/JUSTIFY]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى