من ذكريات المدينة
أمسك عصاه العتيقة ومضى يمشي رويداً رويداً حذاؤه ملت من السفر وثوبه غلفه الحنين وقف على قدميه واثباً من جلسته بعد رحلة طويلة عبر الأقطار يحاول جاهداً أن يستعيد نشاطه وقوته ، ويمشى في أزقة المدينة على يمينه بائع المسابح ومن خلفه صائح يقول ( بريالين ياحاج ) ومن أمامه ثلاث نساء يفترشن الأرض ويبعن ( الإقط والسمن) وقليلاً من نعناع المدينة ، أصوات الصغار تلاحقه عن يمينه وشماله ( يا عم ياعم ) وهو لايعيرها أي انتباه خانه السمع إلا شيئاً يسيراً أحياناً يلتفت للصغار مبتسماً ، ويرمي عليهم بعض الحلوى العتيقة التي بقيت في جيبه فيبادر الصغار لالتقاطها في فرحة عارمة مهرولين في الأزقة شاكرين العم صالح ، مضى في طريقه واصطدم كتفه الأيمن ببائع ( اليغمش)
أصوات المارين في شارع العينية تختلط بأصوات المآذن ومئذنة طويلة تقابله وهي تعانق السماء . البيوت الطينية تكلمه عن غابرأيامه وشبابه والمطر ينزل قليلا قليلاً والطين يتساقط عن الجدران مسبباً الوحل في الأزقة ، أنسام الأصيل تدغدغ وجهه الذي ارتسمت عليه علائم السنين وجه مضيء كإضاءة القمر تسيل عليه قطرات الندى وصوت الأذان يداعب أذنيه من باحة الحرم النبوي الشريف
الأطفال والنساء ينظرون من نوافذ الشيش ( الروشان ) ويحدقون في المارة عبر الأزقة الضيقة مبتهجين بزخات المطر الذي يغطي ساحات الأحواش . وشاب غر لم يعبأ بالمطر وحبات البرد المتساقط عليه فعيناه الحائرتان تلتقي من غير ميعاد بعيون ابنة الجيران الفاتنة الواقفة بكل احتشام في شرفة البيت الشعبي تنشر أثواب الغسيل وتبتسم له تارة وأحياً ناً لاتظهر للشاب ولو لحظة اهتمام .
وفي النسيم العاطر العابر يحدثها وتحدثه بعيون ناعسة وروحٍ عطشى أسيرة حب مدني شريف طاهر ليس وراءه إلا أبيات من الشعر تكتب على المناديل الملونة الحمراء حيناً والزرقاء أحياناً أخرى .
سوزان الصغيرة تلتقي العم صالح عودته من صلاة العصر وتتشبث بطرف ثوبه كالعادة قائلة ( ياجدو هدية ياجدو) تتبعثر قدماه الهزيلتان يلتفت إلى الصغيرة التي تنظر إليه بلهفة وترقب يقف قليلا يدس يده المرتجفة في جيبه الأيمن ثم جيبه الأيسر فلا يجد إلا قلماً قديماً منقوشاً بخط عثماني قديم نقشه {ن . والقلم وما يسطــرون } يناولهـا القلم قائلاً وهويربت على كتفهـا
( خذي يا ابنتي أرجوأن تكوني في المستقبل إعلامية كبيرة ) تأخذه الصغيرة بلهفة فيسيل من القلم قطرة حبر …….