غابات من الأقدام تقرع الطريق المؤدي إلى شارع العينية المؤدي إلى المسجد النبوي، أقدام سوداء وبيضاء قوية وضعيفة وأخرى سريعة وثالثة بطيئة . وبائع المسابح يرقب تلك الأقدام لايهمه الوجوه إنما يهمه القدم القوية الثابتة التي تثبت عند بسطة المسابح جوار بسطة جاره الأخرى وفيها أشياء صغيرة قد لاترى بالعين المجردة،فأنت تحتاج إلى نظارة كبيرة أو منظار طويل حتى ترى المشبك الصغير ومقلمة للأظافير وساعة مزخرفة وإبر خياطة متفاوتة صغيرة وكبيرة ومتوسطة ، وخيوط بيضاء وزرقاء وسوداء و بعض الألعاب الصغيرة بعضها تدور بين أقدام المارة ، والعجيب إنها مع صغرها تسلم من دهس المارين.
تخطف العين بسطة جار آخر إلى يمين بائع المسابح إنها بسطة جميلة ومزركشة عليها أشياء يتعشقها الحجاج ويقفون عندها طويلاً ولا يغادرون إلا وهم يحملون منها الأجمل والأفضل إنها بسطة الصور صور قديمة للمسجد النبوي عام 1317هـ وصورة لحوش التاجوري الذي لا أثر له اليوم وصورة لأسوار المدينة وصورة للعاقول وحوله بعض أسر المدينة بشمغ وعقل وعبايات قديمة وأطفال يلعبون حوله ( والعاقول عبارة عن وادي تغمره المياه ويكثر فيه غرق الصبيان ) وصور أخرى من أبرزها صورة لجبل الرماة تحت جبل أحد ( وهو الجبل الذي صعد عليه الرماة في غزوة أحد ) وصورة لمنطقة شهداء أحد
و كثيراً ما تستهوي الحجاج هذه البسطة الملونة بالصور الجميلة التاريخية وغالب هذه الصور غير ملونة . كالصور المكية للحرم المكي يعود تاريخ بعضها إلى قبل مائتي سنة كصورة لغار حراء والكعبة المشرفة وصورة مثيرة للمطاف تغمره المياه وصورالتقطها طبيب العيون العراقي عبد الغفار البغدادي للحجيج في العام 1885م جمعها الباحث الهولندي سنوك هرجرونجي وعرضت لاول مرة في أوربا العام 1889 م صورة للمطبعة العثمانية القديمة ومنظرعام لمكة وصور كثيرة غاية في الروعة والدهشة.
كان كل بائع يصيح منادياً على بضاعته فبائع السّبح ينادي ( بريالين ياحاج ) وبائع الخردوات ينادي ( قلم أظافيرك ياحاج )
وبائع الصور يقول ( أركداش ذكرى أركداش ) وأركداش بالتركية تعني ( صديق) أول كلمة سمعتها وتعلمتها حين زرت تركيا عام 1407هـ. غالب الباعة يجيدون لغات ولهجات عالمية مختلفة بحكم مخالطة الحجاج والزوار والمعتمرين من دول وثقافات مختلفة .
تختلط أصوات الباعة بأصوات الحجاج حاج باكستاني في منتصف العمر يلبس بنطال أسود طويل يقف عند بائع المسابح وصاحب فوطة أندونيسي ينظر إلى مقلمة الأظافير ويقلبها في يديه ، تركي يقلب صورة قديمة للمسجد النبوي .
وفي هذه الأثناء يصيح بائع المسابح في جيرانه يصيح فيهم تاركاً بضاعته ( البلدية البلية البلدية البلية ) شيلوا البسطات .
يلم صاحب الخردوات بسطته ويتبعه بائع الصور في خفة وسرعة وينطلقان في الهواء إلا إن بائع المسابح لم يكن معهم بل وقف مدهوشاً بين زحمة المارين إذ لم يجد بضاعته ولم يجد خرقته التي كان يضع السبح عليها ينظر يميناً وشمالاً فلا يرى أحداً لكنه يرى صاحب البلدية ومسؤول البسطات ولا يجد معهما أي شي ولا حتى مسبحة واحدة.
إنها مصدر رزقه وقد سرقها أحد الحجاج أو أحد الأطفال لايعرف . يالهول المصيبة ماذا يفعل ؟؟.
مباشرة ودون تردد اتجه صوب القبلة رافعاً يديه في السماء ويقول: يارب لاتبارك لمن سرق السبح بحق الأذكار التي أذكرك بها في هذه المسابح أن ترد عليَّ بضاعتي وتنصرني على من ظلمني .يا ا ل ل ل ه
في الزقاق المقابل رجل باكستاني ذو بنطال أسود يمسك بخرقة ملفوفة وفيها خمسون مسبحة ذات ألوان زاهية يفرشها على الأرض ليبيعها فلا يمر به أحد من الصباح حتى المساء .
يجلس مذهولاً لمدة ثلاثة أيام لايمر به أحد وفي اليوم الثالث عزم على الانتقال لمكان آخر وفي زحمة الحجاج وجد نفسه في المكان ذاته الذي سرقها فيه وبينما هو كذلك إذ مر به رجل أسمراللون كبير الجثة له شاربان أسودان ثخينان ولحية كثيفة ويقول له: بكم تبيع هذه المسابح فيقول له الواحدة بريالين .
فيقول له: إذاً اتبعني .
يلف الخرقة ويضعها تحت إبطه ويتوجه خلف الرجل الغريب وفي هذه الأثناء يقف أمام بيت عتيق لكن نوافذه من زجاج ويظهر عليه آثار النعمة بين البيوت الطينية المجاورة يقف الباكستاني أمام البيت ويدخل الرجل الغريب ثم يعود ويقول له أعطني المسابح وعد إلينا بعد صلاة العشاء وكان الوقت قبيل صلاة المغرب بساعة وافق الباكستاني ولم يصدق من شدة فرحه لأن الرجل الغريب وعده أن عمه سيشتري تلك المسابح كلها وأخبره إنه في المسجد وريثما يعود يكون الوقت عشاءً
غادر بائع المسابح تغمره الفرحة والدهشة والذهول
وفي أثناء عودته بعد العشاء سقط في حفرة فانكسرت رجله وكادت أن تدق عنقه فقام يتلوى لكنه واصل المشي بتثاقل حتى وقف بباب الرجل الغريب طرق الباب للمرة الأولى فلم يرد أحد ثم طرقه ثانية فلم يجبه أحد واصل الطرق كثيراً دون فائدة وهنا خرج عليه من نافذة الجيران رجل يقول له : ماذا تريد ؟
فقال الباكستاني : أبحث عن صاحب هذا البيت .
فقال له جاره : لايوجد أحد هنا إنهم قد تركوا هذا البيت منذ زمن بعيد .
فقال له : ولكن أنا اليوم جاءني رجل أسمراللون كث اللحية بثوب أبيض وجاء بي عند هذا البيت وطلب مني شراء مسابح .
فقال له : نعم هناك رجل باكستاني صديق حارس البيت وأظنه رحل إلى غير رجعة .
أسقط في يد السارق الذي سرق المسابح . فقد سُرقت منه أيضاً فذهب حزيناً وعند عودته في الطريق
عثر في حجر صخري أملس وسقط على الأرض فاندقت عنقه ومات من ساعته .
أما الباكستاني الاخر الذي أخذ السبح فتوجه نحو مدينة مكة وأخذ البسطة ووضعها في ساحة الحرم المكي وأخذ ينادي عليها :اثنين حبة بريال ، السعر نفسه لم يتغير فوجيء أنه لايلتفت إليه أحد جميع المصلين الخارجين من الحرم المكي لايشتري منه أحد حل الظلام وهو لم يبع منها شيئاً حتى جاءه ثلاثة صبيان أشقياء فسأله أحدهم عن باب بني شيبة فأخذ يلتفت ويشير إليه وفي هذه الأثناء
قفز أحد الصبيان على البسطة ولمَّ الخرقة الملفوفة وفر بها هارباً خلفه أصحابه .
سارع الباكستاني اللحاق بهم دون جدوى وبينما هو يجري خلف الصبي قطع الطريق وهو لايدري عن نفسه فصدمه باكستاني يقود سيارة تحمل معتمرين فمات فوراً .
أخذ الصبي الخرقة وربطها ثم دلف بها إلى البيت . رأته أمه وكانت إمرأة صالحة فقالت له : ياولدي ماذا تحمل معك
فقال لها : خرقة وجدتها على قارعة الطريق .
قالت له : أعطني الخرقة فلم يجد بداً من أن يعطيها فإذا فيها خمسون مسبحة من أفخر أنواع السبح وأجودها . ورغم الغبار الذي علق بهـا إلا إنهـا لاحظت بريقاً يضيٍء في يديهـا مع رائحة عطرية مميزة تفوح منهـا كالمسك .
قالت له: يابني أما علمت إنه لاتجوز لقطة الحرمين . فأخذتها وخرج الصبي من البيت مسرعاً وركب دراجته متوجهاً إلى ساحة الحرم يبحث عن مغامرة أخرى وفي المكان الذي سرق السبح فيه أمسك به الشرطي وهو يحاول سرقة حاجي آخر وأودعه السجن .
بقيت الأم تفكر في شأن السبح وتقول في نفسهـا إن لهذه السبح قصة غريبة وشأن عجيب لما رأت من بريقها المشع ورائحتها الزكية رغم ما علق بهـا من غبار لعلهـا لرجل صالحٍ أو ولي وبينما أختها الكبرى تتهيأ للسفر إلى المدينة بعد زيارة لأداء العمرة ودعتها أختها فقالت الأخت الصغرى: معك أمانة أن تأخذي هذه الخرقة والمجموعة من السبح وتسلميها لأول بائع يمر عليك بالمدينة
فقالت لها : أبشري ولكن هل آخذ منها سبحة مقابلاً لذلك فقالت : لا يا أختي إنها لقطة وأنا أحب أن تكون صدقة عن صاحبها في المدينة المنورة في طيبة الطيبة فقالت أختها الكبرى : أبشري ونعم الرأي .
وفي المدينة وبعد أن وصلت الأخت الكبرى إلى بيتها مرَّ بها في الصباح الباكر بائع يبيع مناديل حريرية صفراء وبيضاء وزرقاء وكانت تراه من خلف الروشان للنافذة العلوية
طرق الباب فخرج زوجها فقال له : ماذا تبيع فقال : أبيع المناديل كنت أبيع السبح ثم صرت أبيع المناديل الحريرية .
قال له : بكم؟ فقال : الواحدة بريالين .
رجع صاحب الدار إلى زوجته وأخبرها الخبر فقالت : اشتر منه المناديل كلها فأنا أحتاج إليها وأعطه هذه المسابح صدقة من أختي بمكة .
وفعلاً خرج الرجل فدفع له ثمن المناديل وكانت عشرة مناديل بعشرين ريالاً ثم أعطاه حزمة السبح .
وما إن نظر إليها البائع حتى صاح متعجباً من أين جئت بها قال : من مكة وجدتها أخت زوجتي بمكة .
فقال : حمداً لله وشكراً لزوجتك وأختها لقد كانت هذه السبح لي و كنت أبيعها هنا بالمدينة جوار المسجد النبوي ولكنها سرقت مني فلك الحمد يارب .استجبت دعوتي لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد بعد الرضى ولك العتبى إذا رضيت ياااارب.
فرح الزوج وأخبر زوجته فتهللت أسارير وجهـها وتفاءلت و رفعت بصرهـا للسمـاء في دعاء وتأمل وانتظار أن يرزقهـا الله ذرية صالحة وهي تردد مع زوجهـا { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } لم تنجب منذ عشر سنوات.
وما إن وصلت السبح إلى يد صاحبها حتى أُطلق الصبي السجين ولد المرأة التي بمكة وخرج سليماً معافى .
أما بائع المسابح فقد ذهب فرحاً مسروراً حامداً لربه وهو يقول : بريالين ياحاج .