زَفَرَاتُ الآهات في مآلاتِ المكتبات
أ. حسن محمد شعيب
إنّ مِيراثَ الكتُب يظلّ الميراثَ الأعظم والأكبر مسؤوليةً في التفكير بمآلِهِ لدى مورِّثه أنْ يضمنَ له صيانةً وحفظاً بعده ، أو سبيلاً للانتفاع به في حال حياتِهِ أوبعد موته ؛ حيث ابتُليتْ بعضُ مكتبات الأعلام بتفريطِ وُرّاثها : من جهلٍ بكنوزها ، أو إضاعةٍ لنوادرها ، أو حَجْرٍ ومَنْعٍ من النفع بها !
وجاء كتابا الأستاذ أحمد العلاونة ليبعثا بعض الأمل في مآلات مكتبات العلماء العرب التي حُفظتْ في مكتبات الدول العامة ، وفي مراكزها العلمية وجامعاتها وغيرها ؛ مما يضمن سلامتها وصيانتها إلى حدٍ ما ، باعثاً رسالةً مهمّة لأصحاب المكتبات الخاصة : أن يقرّرُوا مصير مكتباتهم في حياتهم ؛ لئلا تتبدّد وتشرّد بعد وفاتهم ، وفي نفس الوقت دعوة مراكز البحث والجامعات والمكتبات العامة إلى المبادرة في شراء تلك المكتبات المتميزة لحفظها ، وذلك في كتابيه :
– كتاب “مآل مكتبات علماء المملكة العربية السعودية” : وجمع فيه حوالي 100 مكتبة لمئة عالمٍ من المملكة فقط منذ ابتداء العهد السعودي بالقرن الرابع عشر الهجري حتى العام 1429هـ .
– كتاب العلماء المعاصرون ومآل مكتباتهم” : وجمع فيه 290 مكتبة لعلماء عرب معاصرين ابتداءً من القرن الرابع عشر الهجري حتى عام طباعة الكتاب 1432هـ .
كان اختيار المؤلف لكتب العلماء تحديداً ؛ لما تتميّز به من مميزات فريدة حصرها فيما يلي :
1- كثرة كتبها لطول المدة الزمنية في اقتناء الكتب .
2- ما كتب على كتبها من تعليقات العلماء في عدة صورٍ مثل : الزيادات لاستكمال نقصٍ بالكتاب ، الشروحات لتوضيح المبهمات ، التفسيرات لبعض الكلمات والأعلام ، تصحيحات الأخطاء ، تقريظات تثني على الكتاب في أوله أو آخره ، وهكذا .
3- انتقاء العلماء لأفضل الطبعات وأصحها ضبطاً .
4- احتواء مكتباتهم على نوادر المخطوطات .
5- احتواؤها على الطبعات الأصلية والمحدودة النادرة .
6- وجود دوريات قديمة وأعداد كاملة منها .
7- كثرة الإهداءات بخطوط المؤلفين .
8- المحافظة على الكتب وتجليدها .
وقد اقتصرَ المؤلفُ في الكتابين أيضاً على المكتبات التي آلتْ إلى : أوقاف المساجد ، والجامعات ، ومراكز البحوث ، مما أوقف منها أو بيع ، أو أهديَ ولها وجود ، دون التطرّق للمكتبات التي أحرقتْ أو ضيّعها أهلُها ، وكل غايات المؤلف هو التعريف بهذه المكتبات والكشف عن كنوزها ومميزاتها .
وفي قراءة إحصائية طريفة لعدد الأعلام الذين آلت مكتباتهم إلى غيرهم في الكتابين ( حوالي 300 علَم ممن أمكن تحديد أعمارهم ) كان المعمّرون منهم فوق 90 عاماً 16% والمعمّرون فوق 80 عاماً 24% والمعمّرون فوق 70 عاماً 31% والمعمّرون فوق 60 عاماً 20% مما يعطي مؤشراً لطول عمر أصحاب المكتبات الخاصة ، تلك البركة في العمر التي ربما نالُوها بسبب تعاطيهم المعرفة ونفْعِ الناس بثمارِ عقولهم القارئة ونتاجاتهم النافعة .
وفي صورة مؤلمة حدّد المؤلف الآفات التي قد تبتلى بها المكتبات الخاصة مثل : قلة عناية الورثة بمكتبات آباءهم ، وإهمالها وسوء تخزينها من قبلهم ، وتجزئتها وتشتتها ، ناهيكَ عن بيعها من قبل تجّار الكتب .. وقد لاحظتُ هذه الآفات مجتمعة ومتفرّقة في مآل مكتبات بعض الأعلام المكيين الذين رحلوا من الدنيا ؛ فرحلتْ مكتباتهم إلى عالم الإهمال والنسيان ، بل لا تجد من الأبناء من يتعاونُ معَكَ لخدْمة مكتبة أبيه أو جده التي قصّر في عنايتها ، ناهيكَ عن لصوص الكتب والمخطوطات والوثائق القديمة الذين يغزونهم ويستغفلون جهلهم بعد التهوينِ من قيمة الكتب وخداعهم حولها ، وحسبُكَ أستاذنا محمد علي يماني عاشق الكتب والمكتبات المكية يُنبئكَ عنهم ؛ فاسأل بهِ خبيراً !.
وقد كانت خطة سير المؤلف في تعداد المكتبات في الكتابين أن رتّب أسماء العلماء على حروف المعجم ، مترجماً لكل صاحب مكتبة بإيجاز ، ثم يصف مكتبته ومحتوياتها ، ثم يذكر مآلها في الوقت الحاضر ، وفي ختام الكتابيْن حشَدَ صوراً لبعض العلماء في مكتباتهم ، إضافة إلى صور تعليقاتهم وشروحهم على صفحات الكتب ، وبعض إهداءاتهم بخط اليد ، والفوائد التي كانوا يكتبونها في الصفحات البيضاء من الكتب وما فيها من درر .
وللحقيقة إن تخلي صاحب المكتبة التي رآها تكبُر أمام عينيه ولكل كتابٍ فيها ذكرى في سنوات العمر بل شهوره وأيامه ولحظاته ، هذا التخلي أمرٌ مؤلمٌ جداً كمنْ يضحّي بأعزّ ما يملك ، خاصةً حينما تؤولُ المكتبة في حياتك كخيار صعب لا تملكُ معه إلا وداعها وقد استودعتها عند مَنْ آلتْ إليه مؤملاً حفظها وصيانتها وديمومة النفع بها ، هذا النفع وللأسف الشديد قد يضيقُ بعد اتّساع ؛ فمعظمُ مآلات المكتبات باتجاه الجامعات والمراكز البحثية تُحجز فيها المكتبات المُهْداة في قاعةٍ ولا يُمكّنُ جميعُ الباحثين من الدخول إليها ، ناهيكَ عن الإهمال الذي قد يصيب محتوياتها والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة لن تُعْيِ الباحثَ في يقينها !.
وختاماً لعلي أضيف من مآلات المكتبات التي لم يتطرّق لها الكتاب : ما فعله أحد الأقرباء وكان أكاديمياً في مجال التاريخ والحضارة واجتمعتْ لديه مكتبة غنيّة بكتب التخصص بعدة لغات ، وبعد تقاعده لاحظ أنّ أبناءَهُ كلٌ مشغولٌ في مجال عمله والمكتبة شبه مهجورة وهو ذاته أصبح بعيداً عنها لكثرة أسفاره وتنقلاته مع أبنائه المبتعثين ؛ فخطرتْ بباله فكرة للانتفاع بتلك المكتبة وبادر لتنفيذها وحقق غاياته فيها ببركة نواياه الطيبة ؛ حيث اشترى شقةً في القاهرة قريبةً من الجامعة ، ونقل إليها مكتبتَه التي أخذتْ مكانها في دواليب تقابلها طاولات للقراءة ، وآلة تصوير ، ومسؤولٍ يفتحها للطلاب كل صباح مدة 8 ساعات ينهل منها طلاب الجامعة قراءةً وتصويراً بالمجّان ، وقد سُمِحَ لهُ بهذا المشروع في يُسْرٍ دُونَ أيّ عراقيل ، وحسب إفادتِهِ أخبرني بأن روّاد المكتبة يومياً بين 60-70 طالباً ! هذا المشروع لم يزلْ قائماً هناك منذ تسع سنوات ؛ فهل يا ترى يمكن نقل التجربة هنا بأمان بعد تجاوُز بيروقراطية الثقافة والإعلام ؟!
* مِن آخِرِ السّطْر :
كلما نظرتُ إلى كُتُبِي المُتَرَاصّة في رُفوف مَكتبتي وفكّرتُ في تلك المآلاتِ ؛ اعتصرَتْني غُصّةٌ ولحظاتُ يَأسٍ حتى يحملني عنوانُ كتابٍ في عَوَالمَ من التأمّل تُنسِيني ما كان .. وحقاً قولُ د.محمد البنهاوي ( أستاذ المكتبات ) “إنّ صفاً واحداً من الكتب يستطيع أن يجُوبَ بكَ العالمَ بأسره ، وهو قادرٌ على الخَوْضِ في أعماقِ التجارب الإنسانية”.[/JUSTIFY] [email]Shuaib2002@gmail.com[/email]
——————————————–
مقالات سابقة
[url]https://www.makkahnews.sa/articles.php?action=listarticles&id=46[/url]
#قي_ضيافة_الكتاب