وجهُ القريةِ شاحب منذ عامين تقريبًا فمع كل مطلع فجر جديد أتلقى خبر وفاة أحدهم فتضيق بي الأرجاء وتغفو بهجة يومي . في زمن أصبح فيه الموت يستدعينا دون استئذان . كلنا ينظر للموت على أنه حدث يخص غيرنا، نمرّ على القبور، وتمرّ بنا الجنازات، ونتابع الأحداث، ونسمع أخبار من يتخطفهم الموت يوميًا. إلى أن يفجعنا الخبر بعزيز أو بصديق أو بأخ أو بحبيب. أما هؤلاء موتهم فاجعة لم تغير ملامحي فقط، بل زادت ذكرياتي ذكريات، ووحدتي أكثر .
المهندس “يحيى سعيد” صديقي الحميم منذ المرحلة الثانوية درسنا في مجمعٍ واحد ثم سبقني بعد تخرجهِ، والتحق بكلية الجبيل الصناعية، ثم انتقلتُ أنا لمكة المكرمة أدرس الإعلام . يحيى يُشبهنا تمامًا، كان يغطي صباحًا كتبه المدرسية بسجادة تسكنها صورة الحرم المكي الشريف وبوصلة تسافر باتجاه القبلة، طَبعت عليها أمه رائحتها ودعواتها، يلفها بعناية ويحملها ويرحل إلى مسكنه الثاني آنذاك. كان يحلم بأن يكون مثل أخيه الأكبر “خالد” مهندس ومخترع ترافق اسمه إنجازاته الرائعة، وشغوف بكل ما هو جديد في التقنية . كان دائمًا يحب أن يرسل لي هذه المقطوعة عبر الهاتف:
“تدري خطانا بالحياة!
أنا زرعنا أحلامنا فوق السحاب
وقلنا متى نصبح شباب!
ونقطف ورود أحلامنا والأمنيات
ولما كبرنا وجينا نسأل حلمنا تدري وش لقينا ……؟
لقينا أجمل حلم مات
وبعده درينا
إن أجمل شي فينا.. الذكريات”
-رحمه الله تعالى- حتى أذكر أنه كان على اتصال بي بداية ذهابه لدراسة المرحلة الجامعية في الجبيل، وكان يشكي لي وقتها وحدته وبعده عن أهله وقريته وزملائه كنت أُصبره وأقول: لا عليك ستمر أربع سنوات رائعة في حياتك، وستحقق إنجازات ونجاحات تنسيك وحدتك وغربتك. حتى أرسل لي مرة رسالة نصية أذكر أني فتحتها مباشرة عندما وصلني نبأ وفاته يقول: “في اللحظة الأخيرة من حياتك سيدرك العالم أنك جيد، لكنك غادرت .” اعذرني يا صديقي إن قلت اليوم إني كنت أغبطك، أغبطك على صبرك الجميل على كل من ظلمك ومن أساء إليك عن قصد، أغبطك لصبرك على مرضك أغبطك؛ لأني لا أملك قلبًا طيبًا مثلك قادرًا على التسامح في كل مرة. “حيو” سأظل أناديك هكذا كما أحب أن أناديك إلى أن ألقاك، ويقيني اليوم أنك بجوار ربك راضيًا مرضيًا، محبيك يا رفيقي بدونك في الدنيا أشلاء بشر وبقايا إنسان.
الشيخ “ماجد عطية”
سنوات عاشها ماجد كانت مرحلة خصبة بالدعوة والمشاركات الدعوية المختلفة اتسمت حياته بالتسامح ومحبة الجميع له، كان حيًا ومشاركًا على مواقع التواصل الاجتماعي. خلدّ له ذكرًا جميلًا ودعوات جميلة يتلقاها من كل مكان، وخلّد لنا أجمل وصاياه وشجونه في وسم #وقفة_تدبرية الذي انتشر بعد وفاته؛ فأضاء ذكره وحسنت منيته.
كان يزورني كل عام فترة الحج في مكة، ونقضي سويًا أيامًا رائعة في خدمة ضيوف الرحمن، كان دائمًا يوصيني يقول: “يا ضيف الله لا تسبق الأيام لا تكبر سريعًا وعش حياتك” وقبل رحيله بأيام يرسل لي: “يا أخي أحبك” ويدعو “أسعدك الله بطاعته” ويمازحني “هل لك بأن تقدم لي دعوة خاصة لحفل تدشين كتابك؟” لله ذكراك يا ماجد، فالطهر الذي عشت به مثواه الجنة بلا حساب -بإذن الله-. تموت قبلي يا ماجد وتتركني في هذه الظلمة الموحشة، لم أعد أملك سوى الجسد المُحطم وشريط من حكايات لن يراها من حولي، تدفعني تارة للضحك وأخرى للبكاء، فأبدو كالمجنون.
كُنتم أكثر من أن أكتبكم في مقال -رحمكم الله-
مكة-الأحد-17 شوال 1436هـ