حينما يولدُ لك ابنٌ أو ابنة ويكبرُ حتى يخرج للحياة – وأنتَ ترقُبُهُ – مُعلِناً عن عقله وقدراتِه بدخوله إلى المدرسة حاملاً معه تنشئتَكَ له وقيَمَك وأخلاقك التي تغذّاها منكَ ؛ تلك النّشوةُ الممزوجة بالفخر والأمل تكادُ تشبه لحظاتِ تدْشينِ كتابِكَ وتوقيع إهداءاتك لجُمْهور القرّاء .
وللحقيقة لم أكنْ يوماً حريصاً على الحصول على توقيع مؤلفٍ على كتابه مُتَعَنّياً ؛ وإنما إذا سنحَتْ فُرْصةً لذلك أو كانتْ طواعيةً من المؤلف نفسه ، ولكن بعد دخولي إلى عالم الجرافولوجي ( تحليل كتابة خط اليد ) ؛ زاد فُضولي خاصةً وأن خطّ الإهداءِ باتَ نافذةً مُهمّة وإحدى مفاتيح شخصية المؤلف السانِحة لدخولي عالمَه .. ههه !
ولا يزالُ مِدادُ المُؤلفين من أصدقائي وأساتذتي حيّاً على أوراق مؤلفاتهم المُهداة لي أمثال : شيخنا الدكتور عبد الوهاب أبوسليمان (عضو هيئة كبار العلماء ) ، وصديقي الناقد الأديب السيد حسين بافقيه ، وأخي الكاتب المكي عبد الله أبكر ، والكاتب والشاعر العَذْب الخلُوق د.ماجد عبدالله ، وغيرهم ممّن أكرَمُوني بإهداءاتٍ عديدةٍ كتاباً وكتابةً محبّةً وعطاءً وعلى رأسهم صديق الكتب والمكتبات ببليوجرافيا الأعلامِ المكيةِ أستاذي وفخري محمد علي يماني .
وقد صادفتُ من أساتذتي ( الكاتب والناقد المسرحي فهد ردة الحارثي ) من لا يُحبّذُ كتابةَ الإهداء الخاص لقرّائه على كتبه ؛ لدواعي فلسفية مُعتبرَة يراها ؛ تقومُ على نظرةٍ وأفق بَعيدٍ لمُستقبلِ الكِتابِ الذي يرى أنهُ يضعُهُ بالأسْرِ حين يُوقّعْ عليه إهداءَهُ ويدمَغُهُ باسْم المُهدى إليه ! فالكتاب في رأيه يجب أن يبقى حُراً طليقاً متنقلاً بين القرّاء في أريحيةٍ ، يُطرِبُ الجميعَ مُحلقاً في سماءٍ رَحْبةٍ كالنّغْري .
ولعلّ من آخر ما صدَرَ في المكتباتِ هذا العام 1436هـ من كُتبٍ في موضوع الإهداءات ؛ الكتاب الجميل “بهجة كتاب .. رحلة على عتبات إهداء الكتب” لمجموعة مؤلفين عددهم سبعة يتقدّمهم أ.عبد الله الملحم ، أعدّوا مادة الكتابَ من الألف إلى الياء في مدة شهر واحد كما صرّح أحدهم في المقدّمة ، وقد تقاسموا كتابة فصول الكتاب التي حملتْ العناوين التالية : لمحة تاريخية ، لماذا الإهداء ، ثقافة الإهداء بالكتب ، نماذج الإهداء في الكتب العربية ، نماذج الإهداء في الكتب الأجنبية ، الإهداء : ألفاظ وعبارات وأسرار ودلالات ( وهو أعمق فصل بالكتاب ) ، فنون الإهداء الذكي ، عناصر الإهداء وآدابه .
والكتاب – على صغر حجمه – رائع في موضوعه المفرد وطبعته القشيبة وترتيبه الشبه شامل للموضوع رغم وجود شبه تكرار في أفكاره بين أحد الفصول ؛ ربما بسبب وجود عدد كبير من المؤلفين فيه ، وهو زاخر بنماذج الإهداءات الأجنبية والعربية المحصورة في الكتّاب السعوديين فقط عدا كاتب خليجي واحد ، ويُشكر المؤلفون السبعة على جهدهم واحتوائهم لفكرة الإهداءات في كتاب مُشترك يمثّل فاتحة خيرٍ وباباً راقياً للوُلوج في عالم الكتاب الرّحْب الفسيح .
وتجدُرُ الإشارة إلى أن أحد مؤلفي الكتاب قد ألمحَ إلى أنه لم يُفرد كتابٌ مخصص لموضوع إهداءات الكتب ! والحقيقة أنهم ربّما لم تُسْعِفهُم مُدّةُ التأليف – في شهر واحد – على البحث والاطلاع على ما كُتِبَ في ثقافةِ الإهْداء ؛ ويحضرُني هنا كتابان مهمّان سابقان رائعان تخصّصا في موضوع إهداء الكتب هما :
– الأول : كتاب “إهداءات الكتب” للكاتب المؤرخ محمد عبد العزيز القشعمي ، طبع عام 1429هـ ، جمع فيه مؤلفه 300 نصاً إهدائياً من كتب مكتبته العامرة ، مع إثبات صورها المخطوطة على أغلفة الكتب المهداة لشخصه فقط ، وقدّم كتابه بمقدّمة موجزة عن ثقافة الإهداء ، ثم أتبعها بتقديمين تحليليين لما حوى كتابه من نصوص الإهداء المخطوطة على أغلفة كتبه : الأول للدكتورة فاطمة الوهيبي تناولتْ فيه ما تحمله الإهداءات المخطوطة من مدلولات وانعكاسات نفسية بين المُهدي والمُهدى إليه ، وتناول التقديم الآخر للدكتور محيي الدين محسب دراسة قيّمة جداً لإهداءات الكتّاب من عدّة زوايا : من المنظور النصي ، والمنظور العلاماتي (السيميائي) ، ومن منظور الشعرية ، ومنظور سوسيولوجيا الثقافة .. وهذه الدراسة تعدّ – في رأيي – من أعمق وأثرى ما كُتب عن ثقافة الإهداء المباشر المخطوط ؛ خاصةً حينما تكلم عن الدلالات الاجتماعية وفرّق فيها بين إهداء الكاتب وإهداءات المرأة الكاتبة .
– والكتاب الآخر : بنفس العنوان “إهداءات الكتب” للأستاذ حمدي البدوي ( مدير المكتبات المدرسية بوزارة التربية في مصر ) ، طبع بنفس العام 2009م حسب تأريخ الطبعة ، ولأن المؤلف متخصص بالمكتبات ؛ كانت دراسته الأعمق والأشمل – برأيي – في موضوع الإهداءات ؛ التي ناقش مفهومها وأنواعها المتعدّدة ونماذجها العربية والأجنبية متعرّضاً كذلك لحفلات توقيع الكتب بأنواعها ومآلات بعض كتب كبار الكتّاب ومكتباتهم ، وقد ضمّ إلى ذلك دراسة ميدانية ومسحية – احتلّتْ نصف الكتاب – لنماذج الإهداءات في مجموعة كتب عشوائية تمثّل أصناف المعرفة العشرة لكتب عربية وأجنبية ، خلص في نهايتها إلى عدة نتائج أهمها : أن الإهداء يعكس مشاعر المؤلف في مرحلة إصدار الكتاب وليس موقفاً أبدياً ؛ فهو قابل للتغيّر بين كتاب وآخر .. ثم ختم الكتاب بفصلٍ مهم جداً عن أسواق الكتب القديمة في مصر وبغداد والشام والجزائر وتونس واليمن وموريتانيا والسودان ؛ وفاته الحديث عن سوق الكتب القديم بمكة أمام أحد أكبر أبواب المسجد الحرام في زمنه باب السلام والذي أشبعه د.عبد الوهاب أبو سليمان دراسةً في كتابه عنه .
ولعلي أختمُ بألطف ما ورد بتلك الكتب من إهداءات جمعتْ بين الظرافة واللعب بالكلمات والمعاني ؛ ما كتبهُ أحدُ المؤلفين يُهدي كتابَه لزوجته “حُسْنيّة” يقول : “ما بين ضمّة الحاء ، وسكون السين ، والنون وشدّة الياء ، وربطة التاء أحتارُ ؛ فأهدي كتابي إلى النقطة التي فوق النون في اسمكِ ؛ فإنْ وَفّيْتُها حقّها كفاني” !
* مِن آخِرِ السّطْر :
من المبادرات التطوعيّة الرائعة في إهداء الكتب ما قام به صديقي الشاب المثقف “خالد أيوب الشدّاد” عضو مركز مؤرّخ بالكويت الشقيقة ؛ بعمل هاشتاق في الانستجرام بعنوان #إهداء_مئة_كتاب ؛ كهدف نبيل يقوم من خلاله بنشر ثقافة القراءة وتسويق الكتب النافعة ( كنتُ أحد المُستفيدين منه بكتابين ثمينين في ثقافة وتاريخ الكويت ) ؛ حتى يسُود : إهداءُ الثقافةِ لا يعرفُ الحدود !
#في_ضيافة_الكتاب
رزقنا الله تلك البهجة