قبل أكثر من 10 سنوات – فترة إعدادي لرسالة الماجستير عن حلقات العلم بالمسجد الحرام – جمعتني عدة لقاءات واتصالات بأخي الأستاذ عبد الله أبكر – وكان لمّا يُصدرُ بعدُ كتابَه الأول “صور من تراث مكة المكرمة” – وكنتُ أتابعُ كتاباتِه التراثية في ملحق الأربعاء الثقافي بصحيفة المدينة ، وعند صدور كتابِه أهداني نسخةً منهُ لمّا علِمَ اهتمامي البحثي عن مكة المكرمة ، وقد فرحْتُ بكتابه كثيراً وقرأته كاملاً في أيام معدودة ، وقلتُ له وَقتها : سيأتي اليوم – يا أستاذ عبد الله – الذي يكون ما تكتبُهُ مَرْجِعاً لجيلٍ سيقرأ عن مكةَ في الكُتُب والصور ولا يرَاها ! ومرّتْ السنواتُ سريعةً وباتتْ النبوءةُ حقيقةً !
في كتابه اليوم “أزقة مكة .. صورٌ وحكايات من عبق التاريخ” يسردُ أبكرُ السيرة الذاتية للمكان حينما يصفُ هذه الأزقة بأنها “خلاصةُ تاريخ اجتماعي وثقافي وجغرافي ومعماري وحضاري وتجاري وإنساني ومهني وسياسي وطبيعي بالنسبة لمناخ مكة المتحرّك على مرّ العصور”، ويوجزُ فِعْلَهُ بالكتاب أنّهُ نَقْلٌ لأسماء بعضها ووَصْفُ العامةِ والمُتحرّكة منها – بصفة خاصة – والمشهورِ في حارات وأسواق مكة التي دأبَتْ على الحركة يومياً ، وكان لها أهميتها الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية دون حَصْر أو استقصاء ؛ ساعياً بهذا إلى رَصْدِ صُور حياة الناس فيها تقريباً ، مُعْتذراً عن ذاكرتِه فيما خانتْهُ .
وقد حَظِيَ الكتابُ بتقديمٍ مهم وجميلٍ جِداً بقلم السيد “عبد الرحمن حسين متولي” سرَدَ فيهِ حياةَ الرقيّ والبَسَاطة والمَحبّة – بحسب وصفه – في أزقة مكة عبر زمنٍ عايشَهَا فيهِ ابتداءً من السبعينات الهجرية ؛ فكان أن أتى على مُعظم الأزقة بمَسْحٍ جغرافيٍّ لا يسطيعُهُ إلا من عايشَ تلك الأمكنة زقاقاً زقاقاً حتى امتلأتْ روحُهُ وذاكرتُه منها كلَّ مكان .
وكانت توطئة أبكر المُعنونة “الأزقة وروحانية التراث والآثار” توطئة فلسفية موفّقة إلى حدٍ كبير في قضية التراث والآثار بين التخلي والانتماء وبين الهدم والاتصال فيما يتعلّق خاصة بمكة المكرمة وآثارها النبوية الشاهدة !
وبدءاً عرّف أبكر الأزقة باللغة : جمْع زُقاق وهو الطريق الضيّق النافذ وغير النافذ ، ثم قسّمها إلى ثلاثة أنواع : الأزقة المتحركة ، الأزقة الصامتة ، الأزقة العامة ، وبلغ تعدادُها بالكتاب 28 زقاقاً هي : زقاق البرسيم ، الكرّاث ، الوزير ، الجزّارين ، الكَوَافي ، العطّارين ، الحدّادين ، الصّوَغ ، الخياطين ، البيض ، الشِّيَش ، المجزرة ، المِهْراس ، السبع الأبيار ، السبع الملفّات ، الغريب ، الحفرة ، السقيفة ، الحُمَر ، القلعة ، الحَجَر ، عانقني ، الجنائز ، الرّمادة ، البازان ، الصولتيّة ، النار ، النّجَس .
ومن عناوين الكتاب المهمّة : الأزقة وتعظيم البلد الحرام بالروابط الاجتماعية ، الأزقة وتكوين الحياة الاجتماعية ، الأزقة ولمحات تاريخية ، الأزقة وعلاقتها بالشعاب ، أنواع الأزقة في حارات مكة ، الطابع المعماري والجغرافي لهذه الأزقة ، الطابع الاجتماعي لأدوار هذه الأزقة ، نداءات الباعة في أزقة مكة ، طب الزقاق .
وأبكر هنا لا ينفردُ بذاكرتِهِ فيما يرْصُد من حياة الأزقة بل يستحضرُ تاريخَها من خلال ما ذكرَهُ مُؤرّخو مكةَ فيها عبر العصور مُوَثّقاً ومُستشهداً ؛ فيؤصّل لموضوعه جغرافياً منطلقاً من شعاب مكة التي عنِي بها المؤرخون تسميةً ومَوَاضعاً هي الملامح الأولي للبلد الحرام ، وهو يصف بدقّة بعض الملامح والمواقف الاجتماعية بالأزقة النابعة من قيم وأخلاق المكيين الأصيلة التي اصطبغتْ بالتسامح وسعة الأخلاق رغم ضيق المكان ، وكما يقول أهل مكة : الضِّيقَة في النفوس .
ولا يُخفي أبكرُ عتبَه على الباحثين في عدم إعطاء تاريخ مكة الاجتماعي في العصر الحديث حقّهُ من البحث والتقصي والغوص في أدق تفاصيله الخاصة بحياة المكيين اجتماعياً واقتصادياً ، بل لا يُجاوزُ فصلاً من الكتاب دون إبداء أسفه والتباكي على أطلال شعاب وأزقة ومعالم وآثار مكة المكرمة التي دُفنتْ ومُحيتْ أطلالُها في مشاريع تطوير العاصمة المقدسة وتوسعات المسجد الحرام ، ويرى أنها وقعتْ ضحيّة التجديد والتحديث السريع دون النظر إلى قيمتها التراثية واستثمارها تاريخياً وسياحياً ؛ ففنيَتْ دُونَ إيجادِ أيّ بَديلٍ يمتّ لها بصِلة ! لذلك ختم كتابه بفصلٍ في رثائيات الأمكنة التي امتزجتْ حجراً وبشراً ؛ ضمّ العناوين التالية : رثاء أمين الحارة في زقاق الأمل ، رثاء بيوت الحجارة ، رثاء أزقة مكة .
هذا وقد جمعَ الكتابُ – برؤيةِ مُؤلفهِ الوَاعية – بين الكلمةِ ، والصورةِ الفوتوغرافية ، والفن التشكيلي ، والخط العربي الأصيل ؛ في لوحةٍ جميلة لأزقة مكة العريقة ؛ حيث حرص أبكرُ على توثيق الأزقة بالصور الفوتوغرافية ( وكانت بالأبيض والأسود ) وفي نفس الوقت كان الفن التشكيلي حاضراً مع الفنان “إحسان برهان” الذي زيّنتْ لوحاتُه التراثية للأزقة والبيوت المكية صفحاتَ الكتاب ؛ ليُتوّج النص المكتوبُ بالخطاط الموهوب السيد “عبد المجيد الأهدل” الذي خَطّ كلماتِ الغلاف وكل عناوين فصول الكتاب وعناوينها الفرعية ، وهذه خطوة مباركة ما زلنا نُنادِي بها ؛ عَوْدةً للحرف العربي الأصيل في أغلفة الكتب وعناوينها بعد غلبَةِ الحرْف الإلكتروني الخالي من روح الأصالة .
وفي الجملة يعدّ هذا الكتاب فريداً في موضوعه ؛ حيث لم يفرد أحدٌ – حسب علمي – موضوعَ الأزقة المكية بهذا التفصيل والبحث التاريخي والاجتماعي والثقافي ، وبهذا النّفَس المكي الأصيل الشاهِد على دِرَاية المكيين – سابقاً – بشِعَابِهم وأزِقّتِهم التي كانتْ ثم زالتْ ، وهو مليء بالسّرْد الذاتي ، والشخوص والأسماء ، والمواقف والحكايا ، والصور ذات الدلالات والأبعاد المختلفة للمجتمع المكي .
ولعل الكتبَ التي ترتكزُ على التراث ؛ غالباً ما تُكتبُ بلغةِ ومستوى أهلِ ذاك التراث الذي قد يفصلُه عن الجيلِ المُعاصِر رُبْع أو نصف قرن ؛ تغيّرتْ فيه المعالم وتبدّلتْ المشاهدُ والأسماء ؛ فيكونُ للمُؤرّخ التراثي فَضْلَ التدوين لاشك ، ولكنْ تظلّ هناك فَجْوةٌ مَعْرِفية ستُعَانيها الأجيالُ كلما بَعُد الزّمانُ في ظل المُتغيّراتِ السريعة الحاصلة على المستوى الحَضاري والثقافي والاجتماعي ، وتبقى هناك الحاجةُ مُلِحّة إلى بَذْلِ المَزيدِ من التنويرِ لبَصيرةِ أجيالِ المستقبل ؛ أنْ تسعَهُم صدُورُ المدوّنينَ بالبَيَان والتّفصيلِ ، خاصةً وأنّ غالبَ ما يقرؤون عنهُ في حُكْم المُنْدثِرِ حتى الخيالُ فيه مُنْبَتِر !
* مِن آخِرِ السّطْر :
يقول أستاذُ الحضارة والتاريخ بجامعة أم القرى الدكتور هشام عجيمي :”إذا انفصلتْ الحقيقةُ التاريخيةُ عن الشاهدِ الحَضاريّ ؛ أصبحَتْ أسْطورةً” فهل ستصبحُ حاراتُ مكةَ وأزقتَها وما ارتبطَ بها من آثارٍ نبويةٍ وتاريخيةٍ مُزالَةٍ مُجَرّدَ أسَاطِيرَ بعد أنْ فَنِيَتْ أثراً بعدَ عيْن ؟!
[CENTER][IMG]https://pbs.twimg.com/media/CMWswnMVEAAuGez.jpg[/IMG]
[/CENTER]
#في_ضيافة_الكتاب