الباحث المتابع لما يدور في أروقة الجامعات العربية، يجد أنها بعيدة كل البعد عن تطلعات الجيل الجديد الطامح للعلم والمعرفة والتجديد، والطامع في التقدم والإبداع؛ لذا نجد أنهـا في المخرجات لم تنتج ما يصبو إليه المجتمع والباحثون المحلقون في عالم الفكر والثقافة، حتى المؤتمرات واللقاءات والندوات الجامعية أصبحت في الغالب عديمة الجدوى، أو مجرد طرح نظريات لا علاقة لهـا بواقع المعرفة، أو تصحيح مسار التعليم ومناهجه وتطويره؛ فلا تزال الجامعات العربية ترزح تحت غطاء مناهج قديمة وعقيمة، وتدور في حلقة مفرغة من الخواء العلمي، ويلاحظ ذلك كل من تدرج في مدرجات التلقين العربي؛ إذ جل المحاضرات الجامعية ولقاءاتها لا تعدو كونهـا تلقينًا نظريًّا، لا يجاوز مذكراتٍ هزيلة يحفظهـا الطالب ويتعود على حفظهـا ليلة امتحانات دورية، غاية ما عند الطالب هو الحضور الدوري، والإنصات لدروس ومحاضرات مكررة ترسخ ظاهرة صوتية لطريقة عربية في التعليم.
أما البحث وقاعاته فهي تفتقر لأبسط أدوات ووسائل البحث وتقنياته الحديثة.
ولا يشك باحث ينتمي لجامعة عربية، أن بيئة الجامعات ليست بيئة تعليمية مناسبة في غالب أحوالها، وأسوأ ما يواجهه الطالب في قاعات الدرس والبحث في الجامعات العربية هو تقييد حريته التي تطمح لبحث جديد أو إبداع حر، يتم تكميم أفواه الطلبة وتعويدهم على نمط وروتين معين، وحرمانهم من أبسط حقوق الطالب الجامعي، وهي الحرية، فكل شيء في الجامعة وأنظمتها يقيد حريته، فهو لا يفكر إلا بأستاذه، ولا يكتب إلا بقلمه، ولا يتكلم إلا بصوته ولا يسمع إلا بأذنه.
خلاصة مخرجات الجامعات العربية نسخ مكررة من صور قديمة متمثلة في أساتذة درجوا على منهج قديم متهالك لا يؤمن أو لا يحفل بحرية الطالب في التفكير والإبداع وطرح آرائه وأفكاره ـ أيًّا كانت تلك الآراء والأفكارـ بكل حرية ووضوح، بل إن بعض القائمين على بعض الجامعات يمارسون لونًا من ألوان الإرهاب الفكري، ويحارب كل فكرة حديثة، أو حركة علمية شبابية متجددة ومتطورة، ويكتم أنفاس الطلبة، وقد يستعدي عليهم جهاتٍ ذات نفوذ، واتهامهم بالانحراف والشذوذ الفكري لمجرد خروجهم بنمطٍ حديث عن نمطٍ قديم مألوف يتم ترويجه وتقديسه كوحيٍ منزل من السمــاء؛ مما أخرج لنا جيلًا جامدًا صامتًا، أو نسخًا مشوهة لفكرٍ مشوه، تحول بسبب الإقصاء والكبت إلى ألغام متفجرة برؤى غاية في التشدد والانغلاق، أو غاية في التحرر والانطلاق؛ مما أسهم في بروز ثلاثة أجيال لجامعاتنا العربية، إما جيل صامت جامد، نسخة مكرورة لزمنٍ عتيق، أو جيل متحرر لا يؤمن بقيود العلم وضوابطه، أو جيل متأزم نفسيًّا جراء مصادرة رأيه وكبت حريته، وكل هذه الأجيال أو الألوان التي تخرجت في جامعاتنا من أسوأ عقبات تطور الجامعة وبروز تيار علمي وثقافي جديد يؤمن بحرية الفكر ومنهج التجريب، ويوائم بين حاجات المجتمع والعصر الحديث، ومتطلبات أسواق العمل العربي.
لابد من إعادة النظر في مناهج التعليم وبيئة التعلم في جامعاتنا العربية، وتهيئة وسائل وأساليب حديثة لتطوير مستمر لا يتوقف عند حدٍّ، وإلغاء كل أنظمة الجمود والانغلاق، والاستفادة من تجارب الجامعات في دول شرقية وغربية بما يتناسب وواقع العولمة والزمن المتغير الذي لم يعد يتوقف عند مجرد إبداع واحد، بل يتعدى لتجديد وإبداعات كثيرة مختلفة ومتنوعة تخدم أهداف التعليم الجامعي، وتساهم في نشر الوعي والحضارة، وتكون لبنة قوية في بناء مجتمع مدني ينافس المجتمعات المتقدمة والمتطورة التي أتاحت ظروفًا أفضل، وأكثر عمقًا، وأبعد نظرة في حرية لا تقبل المساومة برعاية مواهب صغار الموهوبين قبل كبارهم، وتسليمهم أزمة القيادة والثقة في حرية لا تعرف قيدًا أو بيروقراطية مقيتة، تحارب كل فكر متطرف بكل وسيلة علمية حديثة، تملأ فراغ الطالب الجامعي بحلقات وقاعات بحث متطورة وسليمة من أي شائبة جمود أو ركود.
وفي سبيل تحقيق ذلك، لابد من رؤية حديثة، ومنهج جديد قابل للتطبيق بدعمٍ مادي ومعنوي ممنهج، في بيئة حرة، تجمع بين العلم والمتعة، وفتح مجالات واسعة للحوار في هواء طلق نحو تغيير شامل لواقع الجامعات العربية؛ بحيث يخرج الطالب من الجامعة إلى حقول مختلفة من الإنتاج والتطوير والإبداع، والنهوض بالدول والمجتمعات العربية بفكرٍ حر وقلمٍ واعد.